لقد أهداني الصديق العزيز المرضي فانوس رمضان , لذا سأعلقه في مشكاة مدونتي .
ناشر الموضوع : مشتاق
الألوان في مخيلة المعري وتأثيرها في عبقريته – محمد قرانيا *
ارتبط العمى بالإبداع لدى عددٍ من أصحاب الفكر والأدب والشعر عبر تاريخنا العربي القديم والحديث، ففي القديم يذكر لنا تاريخ الأدب إضافةً إلى المعري، بشارَ بنَ بردٍ في العصر العباسي الأول، والحصري في القرن الخامس الهجري، وطه حسين وأحمد الزين وعبد الله البردوني في العصر الحديث.
وقد اهتمت كتب الأدب العربي القديمة ب- (المكافيف). فعلى سبيل المثال لا الحصر يقول ابن أيبك الصفدي في كتابه (نكت الهميان) ص 2: “لما وقفتُ على كتاب المعارف لابن قتيبة رحمه الله تعالى، وجدته قد ساق في آخره فصلاً في المكافيف. فعدَّ فيهم، أبا قحافة، وهو والد أبي بكرٍ الصديق، وكعب بن مالك الأنصاري، وأبا سفيان بن حرب، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وحسان ابن ثابت الأنصاري، وعقيل بن أبي طالب، وأبا الساعدي وقتادة بن دعامة، والمغيرة بن مقسم، وأبا بكرٍ بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد بن أبي بكرٍ الصديق، وعُبيد الله بن أبي أوفى، وعلي بن زيدٍ من ولد عبد الله بن جدعان، وأبي هلال الراسبي، وأبا يحيى بن محرز الضبي، وابن عباس رضي الله عنه”.
وعاهة فَقْدِ البصر محنة يُمتَحن بها الإنسانُ، الذي ما يفتأ يبتدع السبل والوسائل لقهرها، وتجاوز الليل الدامس الذي يغشي عالمه، وذلك بتدريب الحواس الأخرى على ما يمكن أن يعوّض الحاسة المفقودة، ويتفوق بها على المبصرين، فتنمو الملكات، وترهف المواهب والقدرات، بما يؤدي إلى التميّز والإبداع “أو الاختراع، فيما يقيم (الأعمى) جهده عليه والتفرّد أو التميّز فيما يظهر على الناس به، وبدرْبة ذكائه، وقوة ذاكرته، ودقّة ملاحظاته، وبراعة استنباطاته، ووفرة مخزونه ومحفوظه، مما يُخلّد ذكرَه، ويُعظّم أمرَه، ويجعلُ منه في دنيا الشهرة بؤرة إشعاعٍ ومضاء، ومنبراً لا تلجمه الأهواء، وصدق ابن عباس فيما أنشد له الجاحظ(1):
إنْ يأخذِ اللهُ من عينيّ نورَهما *** ففي لساني وسمعي منهما نورُ
قلبي ذكيّ، وعقلي غيرُ ذي دَغَلٍ *** وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُ(2)
إن مقولة (ففي لساني وسمعي منهما نورُ) تعيدنا إلى (العين)، مصدرِ الرؤية، ووسيلةِ تغذيةِ العقل والفكر بالمرئيات، والتي ينعم بها المبصر، إذْ تتحوّل عند فاقد البصر إلى ذكاء إنساني، يقوم بدوره التخييلي في الوجدان، فيعيد تشكيل الأشياء المدركة فوق مسرح الطبيعة، ويحركها بشفافيةٍ إبداعيةٍ لتحقيق أهدافٍ إنسانية.
والخيال يجنح إلى ما يسمى (الفن الجميل) أو (الفن الخالص)، كأن يتخيل الإنسان عالماً جديداً لا يعهده البشر، وقد انطلق أبو العلاء المعري إلى عوالم سحرية في رسالة الغفران، تُغذّي (عين الجسد) و(عين الروح)، وتدفع الخيال للحركة والمتعة والبهجة، وتحقّق نفعي السحر والفتنة الخالصة، وهذه القيمة لا تُحسب على أساس المنفعة التي تجنيها، وإنما على أساس ما تنتجه من رضى حسيّ وتخيليّ مباشر، ومن حيث كونُها ألواناً وأشكالاً وأصوات وإيحاءات.
وهذه (الألوان والأشكال والأصوات والإيحاءات) عمل المعري الفنان على إظهارها، وقد فتح بها أعيننا وأسماعنا وأخيلتنا على عالمه الإبداعي، بحيث أصبح لما ترك لنا من آثار شعرية ونثرية معانٍ حقيقية، أكثر من تلك البيئة الواقعية التي عاش فيها، ونتابع –نحن- العيش فيها ونتنسم هواءها. وما الليل والنهار والظلمة والنور، التي ترددت كثيراً في آثار المعري، إلا رموزٌ لها دلالات، وتمتاز بأنها أكثر نقاءً ودقةً وتركيزاً من الأشياء التي نراها بالعين الخبيرة بما ألفت النظر إليه واعتادته.
فأشخاص رسالة الغفران أكثر إلحاحاً ووضوحاً في وجوههم من هؤلاء الأشخاص الذين نقابلهم في اتصالاتنا العاجلة.
لقد اهتدى (برغسون) إلى شيءٍ من ذلك حين قال: “إن بصيرة الشاعر أدقُّ في كشفها عن الحقائق من تحليل الميتافيزيقي. وهذا ما عناه (كروتشي) حين أصرَّ على أن كل وظيفةِ الفن تنحصر في كلمة (بصيرة)، وقد يملأ فيلسوف مجلداً بحديثه عن الخلود، غير أن بيتاً من قصيدة من أشعار”(3) المعري قد يضعنا في حضرة الشيء الجميل مباشرة. نظراً، لما للضوء واللون من معانٍ حية، وما تخلقه من قوى تصويرية في مخيلة الفرد وخواطره. كما أن اللفظ الأدبي يضفي على معاني الضوء واللون “غموضاً محبباً شفيفاً، وسحراً خلاباً. إذْ يموّه المعاني في رمزيةٍ لطيفةٍ إن احتاج الهدف إلى تمويه”(4).
والشاعر الأعمى الذي كُفَّ بصره قبل الخامسة يصعب عليه استرجاع مدلولات الألوان باستثناء أصحاب المخيّلة المتسعة ممن يتمتعون بمدارك متفوقه، وحساسيات مرهفة.
وأبو العلاء واحد من هؤلاء المبدعين، بل إنه الفريد في إبداعه وذكائه “قد اعتلّ في سنته الرابعة علّة الجدري، فما أبلّ منها إلاّ بعد أن شوّهت وجهه بندوبٍ لا بُرءَ منها، وذهبت ببصره مسدلةً بينه وبين الدنيا حجاباً كثيفاً، حالك السواد، فما انجاب حتى آخر العمر”(5).
إن المدقق في الألوان التي ترد في أشعار المكفوفين سيجد أن لهم “مفاهيم عقلية، ورموزاً تعبيرية عن المعطيات البصرية يكيّفونها قدر استطاعتهم مع المعاني والمفاهيم عند المبصرين، لتكون متفقةً ومنسجمةً معهم في التعبير، كيما تنظّم تفكير المكفوف في الأمور البصرية وتوضّحه، وتجعله مشاركاً اجتماعياً مندمجاً مع بيئته من المبصرين(6).
واللون في ذاكرة المعري ليس واضحاً جلياً من حيث الصفاء، كلون الحمرة أو الخضرة أو الزرقة، وسوى ذلك باستثناء الأبيض والأسود. وكان كل ما بقي له من ذكريات عهده بنور العين لونَ الثوب الأحمر الذي ألبسوه إياه في علّته، وقد أقرّ بذلك إذْ قال:
“لا أعرف من الألوان إلاّ الأحمر، لأني أُلبستُ في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر، لا أعقل غير ذلك”(7).
والمتتبع لألفاظ اللون في شعره يلمس صدق المعري، لأن ما تسرب من الألوان في مخيلته كان باهتاً، كما في قوله ينتقد الحكام:
الليالي مغيراتُ السجايا *** كم جعلن الزيفان شربَ عيوف
قدْ غدا القومُ للنضار فنالو *** ه وبتنا ومن لنا بالزيوف
أولا يُبصرُ الفتى الذهبَ الأحمرَ *** تُحذى به نعالُ السيوف؟!
فالأحمر لم يأت مقصوداً لذاته، وإنما وُصف به الذهب، والعرب قالوا الذهب الإبريز، كما أن اللون الأحمر لم يأتِ إلاّ بعد لفظ الليالي الموحي بالسواد، وأن للنضار لوناً تقدّم على الذهب الأحمر.
وفي تفسير (جار الله الزمخشري) في (الكشاف) لآيتي سورة المرسلات:
“إنها ترمي بشررٍ كالقصر، كأنه جمالاتٌ صُفر” ذكرَ بيت أبي العلاء في (سقط الزند)
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى *** ترمي بكل شرارة كطراف
ثم عقّب عليه عائباً عليه مبالغته وادّعاءه بما نصه:
“شبهها بالطراف، وهو بيت الأدم، في العِظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجّحه بما سوّل له من توهّم الزيادة، جاء في صدر بيته بقوله: (حمراء) توطئةً لها، ومناداة عليها، وتنبيهاً للسامعين على مكانها، ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمَى الدارين، عن قوله عزّ وجلّ: “كأنه جمالات صفر” فإنه بمنزلة قوله: كبيتٍ أحمرَ، وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيهاً، من جهتين: من جهة العِظَم، ومن جهة الطول في الهواء وفي التشبيه بالجمالات، وهي الحبال الضخمة، تشبيه من ثلاث جهات، من جهة العِظَم، والطول، والصُّفرة.
“فأبعدَ الله إغرابه في طرافه، وما نفخ به شدقيه من استطرافه”
وقد علّقت الدكتورة بنت الشاطئ على شرح الزمخشري مستغربة:
“هل مثل ذاك التأويل المعتسف المشتطّ لبيتِ أبي العلاء، مما يمكن أن يخطر على بال قارئ منصفٍ، تحرّر من سيطرة فكرةٍ سبقت إليه بالاتهام؟!”(8).
ومما تجدر ملاحظته في البيت المذكور أن لفظ (حمراء) لكي يظهر سطوعه جعل ذيوله تسطع في الدجى الأسود، ومن ثم ختم البيت بالطراف وهو الأدم الأحمر… وربما كان هذا التلوين يعبّر عن الانفعال العميق الذي تملّك المعري وهو يصوغ صورته الشعرية التي تمتد بأسبابٍ إلى الصحراء العربية. هذه الصحراء التي كان يذهب إليها أترابه لتستقيم ألسنتُهم، وتَبينَ فصاحتهم، ولما حُرم منها عمل على اصطناعها، تعويضاً أجمع عليه دارسوه، ومنهم الدكتورة بنت الشاطئ التي لم تشك “في أن محنته هي التي اقترحت عليه عملية التعويض عن محن الدنيا، في رؤيا عالمه الآخر: فليس يكفيه أن يصير الأعشى أحور، والأعمى بصيراً، والهرم شاباً، وإنّما يعوّض الذي امتُحن في الدنيا بعاهة أو بلوى، تعويضاً لا يقترح مثله سوى ضريرٍ مبتلى محروم: فأحَدُّ أهل جنته (في رسالة الغفران) هم الذين حُرموا نعمة البصر في الدنيا، وأجملهم عيوناً (عوران قيس). وأطيب نسائها نشراً امرأة كانت في الدنيا تُدعى (حمدونة الحلبية) طلّقها زوجها، بائع السقط من المتاع، لرائحةٍ كرهها في فمها، وأنصعهن بياضاً أَمَةٌ تُدعى (توفيق السوداء) كانت تخدم في دار العلم ببغداد”(9).
ثم لننظر كيف أن السواد تضادّ مع البياض في نهاية النص، ليظهر ويبين حسب القاعدة المعروفة، والضدّ يُظهر حسنه الضدّ، وهذا طبيعي أن يكون الأسود والأبيض متقابلين في رؤية الأعمى، لكن الصورة التي سبقتها حين سطع الأحمر في الأسود، هي من غير المألوف، ونجده يكرّرها في أكثر من موضع كما في قوله:
ألفنا بلاد الشام إلفَ ولادةٍ *** نُلاقي بها سودَ الخطوب وحمرَها
إن ألفاظ السواد والبياض كثيرة في شعره، ولعلنا نستشف منها أن اللون الأسود يوحي بدلالات العتمة والظلمة والظلم والتشاؤم. وهذا ما يمكن أن يقف الدارس عنده لأن التشاؤم كان أساس فلسفة المعري التي يبحث فيها عن علل الوجود ونتائجه، وامتثاله لعلوم الطبيعة، وما وراء الطبيعة، والأخلاق، فشرحها وأضاف عليها.
“لم يكن المعري مبتدعاً في ميدان الفلسفة، بل متبعاً لمن سبقوه، وإن تميّزَ بإضافاته وجديده. والمتنبي أستاذ أبي العلاء، قد عالج قضايا الفلسفة من قبله، وتحدث عن الجبر والخير والشر، وفساد النظم السياسية والاجتماعية، ودعا إلى تغيير الأحوال القائمة، بل أبدى أن الحياة كلها شرٌّ، حتى بالغ بعض كبار الباحثين فحسبه من المتشائمين أو من مؤسسي الفلسفة المتشائمة في الأدب العربي”(10)
ولعل من بوادر تشاؤم المعري علّة العمى، التي كان يكابر فيها، ويراها نعمةً، لا يحاول تجاوزها. وقد ذكر الثعالبي في يتيمة الدهر (1/9) أن الشاعر المصيصي قال: “لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب. رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب الشطرنج والنرد، ويدخل في كل فنٍّ من الجد والهزل، يُكنّى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمدُ الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي، وأحسنَ بي، إذْ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء.
ويروي ابن العديم عن والده أنه سمع عن مشايخ أهل حلب، في معرض الكلام على ذاكرة المعري العجيبة وذكائه الخارق، أن المعري “مرَّ وهو راكب بشجرةٍ في طريقه إلى بغداد، فقال له من يقود ناقته: “طأطئ رأسك” ففعل، حتى إذا آبَ من الرحلة بعد عام مضى وبعض عام، ومرّ بذلك الموضع، طأطأ رأسه من تلقاء نفسه، فسُئل في ذلك فأجاب: “ها هنا شجرة” قالوا: “ما ها هنا شيء” ثم فحصوا الموضع فإذا أصل شجرةٍ مجتثة”(11).
إن عبارة “طأطئ رأسك” ثقيلة الوقع على حسّ الشاعر المرهف، وهي ذات مدلول نفسي توحي بالخنوع والخضوع والمذلة والمهانة، وأنّى للشاب المتحفّز المتوثب أن يتقبّلها إلا بروح التشاؤم وردّة الفعل الظاهرة والباطنة. ثم أليس من معناها البعيد شدّة السواد وشدّة القتامة، وشدّة النقمة.
وتقول الدكتورة بنت الشاطئ: “طأطئ رأسك، ما أشقّها من كلمة على الحسّ المرهف للضرير الذي يخرج لأول مرةٍ إلى خضم العالم الواسع، وقد كان من قبلُ ألفَ الحركة في حدود عالمه الصغير الضيّق، ما بين المعرة وحلب. مهتدياً بحسّه الذكي وبصيرته الثاقبة، ومترنماً بمثل قوله في الدهر الأول(12):
وأغدو ولو أن الصباحَ صوارمٌ *** وأسري ولو أن الظلام جحافل
وهذه شجرة فحسب على الطريق، أنى له أن يتقي الاصطدام بها إلاّ أن يقول له من يقوده، منبهاً ومرشداً: طأطئ رأسك؟!
ومما زاد من تشاؤم أبي العلاء أن بغداد لم تحسن استقباله، إذ صادف يوم وصوله وفاة الشريف الطاهر، والد الشريفين الرضي والمرتضى، فقصد للتعزية، والناس مجتمعون، والمجلس غاصٌّ بأهله، فتخطى بعض الناس، ويروي ابن العديم في “الإنصاف والتحري” ص 543 أن أحدهم انزعج فقال له: “إلى أين يا كلب؟!” قال أبو العلاء: “الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً” ثم جلس في أخريات المجلس، إلى أن قام الشعراء وأنشدوا مراثيَهم، فوقف أبو العلاء وأنشد مرتجلاً قصيدته في رثاء الفقيد:
أودى فليت الحادثاتِ كفاف
فلما سمعه وَلَدا الشريف الطاهر قاما إليه ورفعا مجلسه، وقالا له: لعلك أبو العلاء المعري؟ قال: نعم. فأكرماه واحترماه
وهكذا كانت البداية:” مأتمٌ يستقبله يوم وصوله وكلبٌ أولُ لقب يسمعه في بغداد
“وكأن الدنيا مترصدةٌ مقدمه لتردّه إلى موضعه على الأرض، بعدما طال مزعمه أن النجم دونه”
وفي غربته ببغداد أوى أبو العلاء إلى نفسه محزوناً يرنو بوجدانه عبر الظلام الدامس المتكاثف إلى برقٍ لاح من ديار الشام، فهاج مواجعه. وأخذ يصغي في صمت الليل، وفراغ الوحدة إلى صدىً ملء سمعه، من تحنان الإبل يعذبه. كانت تحن إلى الديار، رغم حرصه على ستر وجوهها كي لا تلمح إيماض البرق المتعالي من ناحية الشام.. وإنه مع ذلك ليعجب لهذه البُهم: هل زارها طيفُ خيالٍ، كما زاره طيفُ خيالٍ فهاجه؟.. ومياهاً أخرى وردتها من قبلُ بالفلاة، وهيهات لمثله أن ينسى، وإنها لذاهلة عما تلهب بتحنانها من وجدٍ في صدره، وهيهات لمثله أن يذهل أو يسلو”(13).
طرِبْنَ لضوءِ البارق المتعالي *** ببغداد وهناً مالهن ومالي؟
سمت نحوه الأبصار حتى كأنها *** بناريه من هنّا وثمَّ صوالي
إذا لاح إيماضٌ سترتُ وجوهها *** كأنيَ عمروٌ والمطي سعالي
وكم همَّ نضوٌ أن يطير مع الصبا *** إلى الشام لولا حبسه بعقال
لقد زارني طيفُ الخيال فهاجني *** فهل زار هذي الإبلَ طيفُ خيال
فيا برق ليس الكرخُ داري وإنما *** رماني إليه الدهر منذ ليالِ
فهل فيك من ماء المعرة قطرةٌ *** تغيث بها ظمآنَ ليس بسالِ
ولعل قارئ شعر أبي العلاء يلمس أثر الحزن الذي يتشح صاحبه بالسواد، فالسواد رمز للموت، وهو يبرز في أثر الراحلين من الأهل والأحبة والصالحين، ويجعل صاحبه يصرخ في شجن وأسى:
“يا قلب. لعل أسْوَدك زَنجيٌ من ولد حام…..” (الفصول والغايات) والسواد رمز للحياة التي تغيم فيها المرئيات فيعيش فيها بليلٍ طويل فيقول:
لعمري لقد وَكَلَ الظاعنون *** بقلبيَ نجماً بطيءَ الغروبِ
أقول وقد طال ليلي عليَّ *** أما لشبابِ الدجى من مشيب؟
إن ليل المعري الأسود المدلهم بدأ من سنته الرابعة، فطال وطال، وقد خُيّل إليه حيناً في ميعة الصبا وأشر الشباب، أنه يستطيع أن ينسخ ذلك الليل بنهارٍ متألقِ الضياء، وأن يجعل سُراهُ في داجي الظلمة تحليقاً مع النجوم في مسبح الفلك.
تقول الدكتورة بنت الشاطئ عن حال المعري بعد عودته من بغداد، وقد قرر أن يرسخ الظلمة ويحتجّ على الظلم، وذلك بعزلته الاجتماعية، إضافة إلى عزلته النفسية، فيصير رهين المحبسين، تقول:
“وأوحش ليلُه، وتتابعت أماليه ورسائلُه وقصائدُه، من وراء الأسوار العازلة، والظلماتِ المتراكمة، تضيءُ لنا العالم الفكري والوجداني لشاعرٍ إنسان، كُشف له الغطاء عن نفسه، واستروح إلى الإفضاء بمطويّ همومه ومواجعه، والكشف عن تأملاته ورؤاه”(14).
وقد يرمز إلى الموت وما بعد الموت بالظلمة، فسوادٌ في الدارين الدنيا والآخرة:
وإظلام عينٍ بعدَه ظلمةُ الثَرى *** فقل في ظلامٍ زيد فوق ظلام
ومن قبلُ رمز للصبا والشباب بالسواد. وها هو ذا في الشيخوخة يستاء منه فيقول:
أيا مفرقي هلا ابيضضتَ على المدى *** فما سرّني أن بتَّ أسودَ حالكاً
قبيحٌ بِفَوْد الشيخ تشبيّهُ لونه *** بفَوْد الفتى والله يعلم ذلكا
وفي الشيخوخة والعجز يكون السواد رمزاً لهذه الحياة المضنية:
ولي أملٌ قد شبت وهو مضاجعي *** وساورني قبل السواد وماهَمّا
ولن يكون عزاء المضنّى المعذّب سوى انطفاء النور الذي لم يعد يحبه، وصار يستعذب الموت:
إذا طُفئت في الثرى أعينٌ *** فقد أمِنَتْ من عمى أو رمد
والسواد رمز العمى، وجميع الناس مثله في هذه العاهة يسيرون فيتخبطون ويتصادمون:
وبَصيرُ الأقوام مثليَ أعمى *** فهلموا في حِندسٍ نتصادم
وإذا ذكر ظلم عمال السلطان له وجورهم عليه فإنه يخاطب ناقته التي نقلته إلى بغداد شاكياً لها، ويربط الظلم والعدل بسواد الليل وبياض الصبح:
إذا رأيتِ سوادُ الليل فانصلتي *** وإن رأيتِ بياض الصبح فانصاعي
ونظراً لسيادة الظلمة في عينيه، فإنه يطلق (لفظ الليل) على عموم اليوم، الذي كثر في شعره كثرةً لافتةً للنظر:
فيا برقُ ليس الكرخُ داري وإنما *** رماني إليه الدهر منذ ليالِ
وحين يرثي أباه، يأخذ على الليالي حكمها الجائرَ وهو يقصد الأيام أيضاً:
أبي حكمتْ فيه الليالي ولم تزل *** رماح المنايا قادرات على الطعن
وحين يذكر أنه خرج من بغداد مكرهاً، يحمّل ذلك لليالي ويقصد الأيام:
أظن الليالي وهي خونٌ غوادرُ *** بِرَدِّي إلى بغدادَ ضيّقةَ الذرع
وحين يكابر على نفسه كي يخفي ضيقه، يعلن أنه يودّ دوام الليل، ويقصد دوام الأيام التي ينضاف سوادها إلى سواد القلب والبصر:
يودُّ أنَّ ظلام الليل دام له *** وزيد فيه سوادُ القلبِ والبصرِ
وحين يصير إلى الشيخوخة ويرى فمه بلا أسنان، يلقي باللائمة على الليالي ويقصد الأيام:
فمي أخذت منه الليالي وإنني *** لأشربُ منه في إناء مثلَّم
ولم يكن اللونان الأبيض والأسود في بصيرته سوى مكونات فكرته رسمها رسماً “يمسّ عواطفه وخياله، حتى ينطلق لسانه بوصف هذا الشيء، نقلاً عما تركته صورته في خياله وقلبه، من الشكل المفضّل والتأثير الشديد” لكن الدكتور طه حسين يرى أن المعري في وصفه للمبصرات، ومنها الألوان يقلّد ما سمعه من المبصرين، فلم يبلغ شأوهم “في هذا الفن، فيحتال في أن يعوّض شعره من هذا القصور ما يزيّنُ لفظَه، ويجمّلُ معناه”(15)
إن للبياض والسواد قيمةً تُعدّ من أهم القيم الفكرية والفنية في الأدب العربي نلمح فيها بصورةٍ جليةٍ المقابلة بين الأبيض والأسود والليل والنهار والنور والظلام وكل ما يمكن أن يتصل بهما من معان ترمز للخير والشر والعدل والظلم، فالظلام رمز الضيق النفسي، والشر، والظلم، والباطل، والعتمةِ. والنورُ رمزُ الحب والخير والعدل والنهار والضياء. وهما في تقابلٍ دائم في النفس، وصراع مرير في الحياة لا ينتهي، وقد عرفتها جميع الآداب في الأمم القديمة والحديثة، وهذه ظاهرةٌ في شعر المعري ثريةٌ خصبةٌ وردت صريحةً تارة ورمزية تارةً أخرى، تتصل بكل طرف من أطرافها، وهي تمتدّ من صورتها المجملة المقتضبة المتمثّلة بالأبيض والأسود، أو بالليل والنهار، أو بالحق والضلال، وهذه الثنائيات في صراعٍ مستمرٍ إلى صورها التفصيلية التي يضفي عليها في كل مرةٍ معنى جديداً.
إن رموز البياض والسواد المتغلغلة في شعره، كانت نتيجة طبيعية لحالته البصرية لكن البصيرة صقلتها وعالجتها لتقدّمها في صورٍ اختلفت اختلافاً واضحاً عن صور المبصرين.
ولنقف عند قصيدته النونية نتسقّط رؤية البصيرة لهذه الألوان التي خرجت من معطف الأبيض والأسود لتلبس غلاله الشاعرية والشفافية والجمال النفسي، غير المرئي:
علّلاني فإن بيضَ الأماني *** فَنِيتْ والظلامُ ليس بفاني
رُبَّ ليلٍ كأنه الصبح في الحسن *** وإن كان أسودَ الطيلسان
قد ركضنا فيه إلى اللهو لمّا *** وقف النجمُ وِقفة الحيران
فكأني ما قلتُ والليل طفل *** وشباب الظلماء في العنفوان:
ليلتي هذه عروسٌ من الزنج *** عليها قلائد من جمان
وكأن الهلال يهوى الثريا *** فهما للوداع معتنقان
وسهيل كوجنة الحب في اللون، *** وقلبِ المحب في الخفقان
مستبدٌّ كأنه الفارس المُعلَم *** يبدو معارضَ الفرسان
يُسرعُ اللمحَ في احمرارٍ، كما تُسرع *** في اللمح مقلةُ الغضبان
ضرَّجته دماً سيوفُ الأعادي، *** فبكت رحمةً له الشِّعريان
ثم شاب الدجى، وخاف من الهجر، *** فغطّى الشيبَ بالزعفران
ونضا فجرُه على نسره الواقع *** سيفاً فهمّ بالطيران
هذه صورة من أروع مشاهد الطبيعة، رسمتها بصيرة المعرى الفنان، بألوان روحه التي كشفت عن إحساسٍ دقيق، مرهف الشعور مستغرق النفس في تأملاته “واعي الفكر في تصوراته، واسعِ الأفق في مطالعاته. نفّاذٍ إلى دقائق الأشياء وأسرارها، يستطلع مكنونات الطبائع إلى عمق أغوارها، متتبعٍ كل حركةٍ وخلجةٍ. لم يفتْهُ في هذه اللوحة الشعرية سريعُ نبضٍ، ولم يَخْفَ عنه خاطفُ ومْضٍ، ولم تندَّ عنه لمحةٌ تُلاحقها لمعة، أو يختلط منظرٌ في هذا الموكب الساحر بمنظرٍ، أو يطغى لونٌ على آخر في كل مظهر”.
“في هذه الصورة نشهد في البيت الثاني منها المقابلة الصادقةَ بين بياضِ الليلِ وسواده. إذ يضفي فيها الشاعر من إحساس الشباب الطافر، الجاري وراء الجمال الساحر، ونعيم الحياة الغامر، واللاهي عن مآسيها وأحزانها، وهمومها وأشجانها بهدوئه الناعم لوناً مبهجاً غير ذلك اللون القاتم”
ووصفَ الأماني في البيت الأول بالبياض. ليس لأن المعري يعقل هذا اللون، فقد حدثنا أنه لا يعقل من الألوان إلاّ الحمرة، وإنما “لأنه رأى الناس يصفون الجميل بهذا اللون، ويستبشرونه فيما لهم من النظم والنثر والحديث، وهو بعدُ يريد أن يصف أمانَيه بالحسن، وقد حفظ أن الظلامَ لونُه السوادُ الحالكُ إشارة إلى اليأس، وانقطاع الرجاء من لذات الحياة، وسأل صاحبيه أن يعللاه بما عندهما من خيرٍ ليتلهى عن احتمال هذه الحياة المفعمة باليأس والقنوط”(16).
ثم يشبه في البيت الثاني الليل بالصبح لا في شيءٍ مادي بل فيما يمنع النفوس به من السرور والطمأنينة، ولفّعه بطيلسان أسودَ، كثيراً ما لفّعه به الناس قبله.
وثمة مقابلةٌ أخرى بين الحركة والسكون: حركةِ هذا الشباب الذي يتسابق إلى مسارح اللهو ركضاً في بهجةٍ ومسرةٍ، ثم سكونِ النجم الواقفِ في وجومٍ وحيرةٍ، والحيرةُ سبيلٌ إلى الأسى والحزن وإلى السكون والوجوم.
“ثم ينقلنا معه إلى مقابلة أخرى بين الطفولة في وداعتها القَريرة، وبين الشباب في فنونه الغريرة: طفولةِ القمر وهو في أول الشهر ليدرج إلى تمامه في منتصف الشهر خطوةً خطوة، وقد اشتدت من حوله الظلمة بسواد إهابها، مزهوةً بأول شبابها وما هي فيه من قوةٍ وسطوة.
ثم يبدأ في وصف ليلته هذه التي امتلكت مباهجها عليه مشاعَره، وطردت النومَ عن أجفانه، فيشبهها بعروسٍ من الزنج قد أفاض عليها الشباب من غلوائه زيادة في التكوين، وحسناً في التقسيم، بحيث تزهو على أترابها، وقد حلّى جيدها بعقودٍ من اللؤلؤ! يريد بذلك تلك الأضواء المنبعثة من الكواكب هنا وهناك في صفحة السماء. وهنا تبدو براعةُ هذا الشاعر الرسام الفنان في قوله: “عروس من الزنج” ذلك أن هؤلاء القوم شديدو التعلّق بالطرب، حتى ليُضربُ بهم المثل “أطرب من زنجي”.
وكما قلنا إنه لم تندّ عنه لمحة، فنحن بعد ذلك أمام مشهدٍ رائعٍ من مشاهد الوداع، بين الهلال الذي أراد به صورة فتى، والثريا التي أراد بها صورة فتاةٍ، وقد اعتنقا عناق الوداع. ذلك أن الثريا لا تمكث مع الهلال حين يهلُّ في أول ليلة إلاّ زمناً قصيراً ثم تغيب، وهم يضربون المثل بهذا اللقاء الخاطف، فيقولون: “ما ألقاه إلاّ عداد الثريا من القمر”.
ويصور في البيت الذي يليه كوكب سهيلٍ الذي يُرى مضطرباً لقربه من الأفق، فيشبه اضطرابه بخفقان قلب المحب حين يلقى من يحب، ولا ينسى الشاعر هنا أن يحدّدَ لونَ هذا الكوكب بالتشبيه دون أن يذكر اسم هذا اللون، إلاّ بعد قليلٍ، “كوجنة الحب” بكسر الحاء- أي المحبوب الذي تحمُّر وجنته عند لقاء حبيبته، ومعروفٌ أن هذا الكوكب يضرب لونه إلى الحمرة(17).
ثم يشير في البيت الذي يليه إلى سرعة لمعان سهيل وحمرة لونه يشبهه في هذا بلمعان عين الغضبان في سرعتها وحمرتها. وقد أفصح في هذا البيت عن هذا اللون.
ثم يليه بيتٌ يصوره فيه قتيلاً مضرجاً بالدم من سيوف أعاديه، وقد وقفت أختاه “الشعريان” تبكيانه، وكانت العرب تقول: “الشعريان أختا سهيل. إحداهما: (الغميصاء) وهي في المجرة، لا تنظرِ إليه لأن عينها غمصت من البكاء. أي كثر القذى فيها، والأخرى “الشعرى العبور” قد عبرتْ إليه نهرَ المجرة، فهي تنظر إليه، وفي عينيها عبرةٌ.
ونذكر هنا أن قوله: “سيوف الأعادي” لم يرد حشواً في هذا البيت، وإنما ورد لبيانٍ تاريخي بعيدٍ لم يغب عن ذهن الشاعر في هذا التأمل. ذلك أن سهيلاً – وهو من الكواكب اليمانية- يثيره في تفرّده عن باقي الكواكب الشامية واعتزاله إياها حقد هذا الكوكب عليه، فجعلها أعداءً له، ترميه بسهامها فتصرعه، ومعروفٌ، أن بين القبائل المضرية والقبائل اليمنية أحقاداً قديمةً كانت، فأضفى بهذه اللفتة التاريخية على صورته إبداعاً آخر حين جعل الحقدَ الكامنَ في نفوس القبيلتين قد تجاوزهما إلى الكواكب اليمنية والشامية.
ثم يشير في البيت الذي يليه إلى طول الليل، فيجعل كواكبه لطوله كأنها لا تبرح مكانها ومن هذه الكواكب نجمان خلف سهيل يقال لهما قدما سهيل، وخلفهما كواكب أخرى يقال لها الأعيان، فإن سهيلاً على الرغم من أن له قدمين، قد تقاعس عن الحركة، وعن السير.
ويشبه الظلام في البيتين الأخيرين –حين ظهر فيه بياض الصبح مع ما يبدو في الأفق من حمرةٍ- بالرجل الذي يخشى أن يهجره حبيبه إذا رأى الشيبَ قد دبَّ في رأسه، فيعمد إلى سترِ هذا الشيب، وتغطيته بهذه الحمرة، التي يصبُغها به.
ثم يجعل النسر الواقع –وهو الكوكب المنير الذي تُشَبّهه العرب بنسرٍ ضمَّ جناحيه إلى نفسه، كأنه واقع على شيء وجناحاه هما النجمان اللذان إلى جانبه- يهمّ بالطيران حين رأى عمود الصباح يشق الظلمة كأنه سيف مسلول، وهنا مقابلةٌ بين النسر الواقع وهو كوكب كما ذكرنا، وبين النسر الطائر وهو كوكب آخر.
هذه الصورة الرائعة التي حلّت فيها الألفاظ الراقصة والموسيقا العذبة محل الألوان والظلال، وتواكبت فيها التشبيهات البديعة مع اللفتات السريعة، ربط فيها المعري بين مكتسباته الثقافية في الأدب والعلوم، وبين الأحداث التاريخية البعيدة، والأساطير المتواترة القديمة مما وعته ذاكرة هذا الشاعر الفنان، وقد يصعب على بعض الناس أن يصدقوا أن الذي رسمها بالكلمات، وبهذه الدقة والبراعة، شاعرٌ كان يعيش في ظلمةٍ مسدلةٍ على عينيه، ولكنه عاش ببصيرة نفاذة لم يستطع العمى أن يسدل عليها ظلامه”.