Feeds:
المقالات
التعليقات

Archive for 26 أفريل, 2009

أيام العمى !

وقفت أمام أرفف مكتبتي , كانت كتبي متراكمة بعضها فوق بعض , (الخبز الحافي) متمددا أمام (الشطار) , فالأسفل (القنصل الفخري) يتكئ على (كوخ العم توم) , و ( بريرا يدعي ) بكلماته , وأحمدو كروما يقول ( لله الأمر ) .
يا الله منك العون , كيف أصل لكتاب يطفئ ألهبة التساؤلات , فيروي عطش من سينصت إلي هذه الليلة.
أكثر اللحظات إرباكا هي التي ينظر إلي أحدهم يثبت عينيه لينفذ لقلبي وكياني المتهالك وأنا أظل في مكاني حائر , ملجم معقود اللسان , أريد أن أتهاوى بما في داخلي دفعة واحدة كشجرة معمرة أعيها طول الوقوف والجفاف !
أهبط كقنلبة هائلة تنثر بقايا صرح طالما روى أناملي تعبث بركام الكتب , تنتزع كتاب من صدفة , ثم تعيده إليها , تتلمس العنوان المحفور , واللوحة المرسومة , هي لوحة بلا ألوان .
اعتلت أناملي الركام , ليمين الرف طاشت , تسحب كتاب هو نعم هو , ولكنه لا يكفي وحده لشفاء الغليل .
في هذه المرة خانتني يدي فلم أجد الكتاب الثاني , أفرغت الرف من محتواه حملته بين حضني , وهبطت الدرج بسرعة كانت هناك تجلس عل كنبتها وبجانبها طاولة ونظارة تتوسد مجلة وكتاب .
: يا أمي أنتي الملاذ بعد الله سبحانه .
نهض صوتها مغيثاً لي.
– ما تريد .
– كتاب لم أعثر عليه .
– ما اسمه أبحثت عنه في مكتبتك .
– بحثت لم أجده .
– لنصعد إلى مكتبتك .
وقفت بعطاء دافئ أمام الكتب , وأنا بجانبها قزم أضاع عناوين كتبه .
عاودت النبش بيدين لاهثتين وسط الدولاب ,
– هذا يا أمي ؟.
– لا.
– أم هذا ؟
– أيضا لا.
تلمست كتاباً بطول الشبر وبعرض نصف الشبر سماكته تقارب العقلة ونصف :
– يا أمي هذا هو؟
– نعم .
وضعتهما في حقيبتي ومضيت .
في القاعة قلت للحضور الكرام , بظني أنكم متعطشون للقراءة حول العمى.
بالعادة نقرأ كتب في التربية الخاصة , هي كتب نظرية لا روح فيها تحولنا لشيء أو عينة انتقائية تدكنا بالقوانين الإحصاء التحليلية والنفسية …الخ .
لكن لو تسمحوا لي بنصيحة صغيرة .
من أراد أن يتعرف علينا يقرأ هذا , رفعته بيميني عاليا في وجه كل الكتب السقيمة . ماذا تقرؤون على العنوان ؟.
بضع منهم قال الأيام لطه حسين .
هذا الكتاب يجيب على أسئلة حائرة .
هل الكفيف الذي لا يرى ليلا ولا نهارا تتأثر مشاعره وأحاسيسه بحركة الوقت ؟ وغيره و غيره
يا أحبابي في يوم من الأيام هل تخيلتم أنكم تتجولون في مدينة كلها عمي لا مبصر فيها سواك ؟
أما هذا الكتاب الثاني قبل أن أعرضه أمامكم له قصة عجيبة .
في عام 2006 م قمت بزيارة لمعرض الكتاب بجدة أعاده الله من غيابه,
وبعد ثلاثة ساعات من التطواف أرهق مرافقي , حتى أن عينيه ما عادت تميز الأحرف !
ولم يروى غليلي بعد فاستعنت بالله و رحت أتلمس بيدي !
دخلت لمكتبة صغيرة جدا , كانت ضيقة تعرض نفسها بفتنة فقيرة ولا راغب فيها ,
وضعت يدي على الرف الأول , ثم الثاني , والثالث ,
سحبت كتاب.
– قلت له ما اسم هذا ؟.
– رواية العمى .
– عن هذا أبحث . دفعت قيمته وغادرت .

شكراً لك لأنك منحت لأحرفي الباهتة فرصة أعتز بها

Read Full Post »

مع برايل

مع برايل
في مكالمتنا الهاتفية اعترى محدثي موجة استياء عارمة لأنه بعث للكثير من الجهات ولم يرد عليه إلا بالصمت التام , ثم استدرك وقال لم يبلغ عدد المشاركون إلا سبعة رجال وثمانية سيدات , فقلت له الخيرة فيما اختاره الله .
وحين اعتليت المسرح تفاجأت بحضور غريب زاد معه حيرتي فقد كان يقتعد المسرح خمسة عشر رجل وستة وعشرون امرأة .
وفي اليوم الثاني من الدورة اعتليت المسرح فتناها لسمعي جلبة أكثر من التي كانت بالبارحة كان الحضور يزيد على العشرين رجل وأربعين إمرأة ,
أما اليوم الثالث يملأ المكان ويجول في جنبات المسرح طنين كطنين النحل في خليته ,
كان الحضور يفوق السبعين امرأة وبنفس عدد الرجال .
وبع أن شكرت الجميع توجهت لهم بالسؤال ماذا تعلمت من برايل ؟
قالوا الصبر , والقدرة على التصنيف , والدقة . ثم طرح نفس السؤال ماذا أضافت لي طريقة برايل ؟
أجبت بأن برايل قد علمتني أمرين .
الأول إن طريقة برايل هي طريقة تقرأ وتكتب من اليسار إلى اليمين وهذه الطريقة لا ترى بالعين بل تلمس بأطراف الأنامل ,
ومن هذا تعلمت إنني إن كنت أتطلع للنجاح لابد أن أكون مختلف كما هي برايل مختلفة.
والأمر الثاني علمتني خلية برايل المتكونة من عامودين متوازيان ويحوي كل عامود ثلاثة نقاط تتكون منها عموم لغات العالم العربية والإنجليزية والفرنسية وغيرها.
وكذلك الحياة هي الفرصة الوحيدة , لذا يتعين علي أن أبدع في ابتكار البدائل ,
فلو إستسلمت للعتمة التي تحيط بي وتنتشر من حولي وتغلف كل المرئية بغلالة ضبابية تشوه الواقع وتزودني بريئة مغلوطة .
فلم أتمكن من رفع أشرعتي لتناطح الرياح ,
ولن يبحر زورقي ليشق عباب الماء ,
ولن أعتلي الصارية المرتفعة لأتطلع إلى الأفق وأبحث عن فنار يومض من بعيد ,
يهتف لي أن أقبل لأرسو على مرفئه .
لهذه الأحرف تتمة حول بعض المواقف المحرجة والمشاعر التي تلمستها من خلال إلقائي لتلك المحاضرات ,
أتطلع لمتابعتك وأعتز برأيك .

Read Full Post »

بقايا عتمة

طرق الباب بلطف…ثم دخلت الممرضتان للحجرة بحيوية قائلتان : صباح الخير
– صباح النور .
على الفور ناولتني إحداهما البالطو الرمادي ثم تنحيا غير بعيد..
ارتديت البالطو ذا الأزارير البلاستيكية الكبيرة ثم استلقيت على السرير
قلت بصوت ساخر: المكوك جاهز .
أفترّّ من ثغريهما ابتسامة صغيرة.
تحرك السرير برفق شبه نصف استدارة واندفع ناحية باب الحجرة.
فاح من الممرضة القصيرة رائحة عطر الأناناس وهي تميل فوق جبيني بخصلات شعرها المعطر
هامسة في أذني: سنعيدك لحجرتك مبصرا.
سلكنا الممر الطويل متجاوزين الغرف التي لا تخلو من أصوات المرضى وهم يستعدون للعمليات الجراحية.
أقتربنا منها , أسمع صوتها وهي تتحدث برقة غير متكلفة ضاغطة بسماعة الهاتف على خدها , أشارت بيدها البيضاء..
توقفنا.. أسمع خطواتها الرشيقة تستدير من خلف طاولة الاستقبال المرتفعة
فاجأتني بأن لمست يدها الصغيرة حاجبي الكث: أنت محظوظ من بين العميان لكونك ستبصر الدنيا..
قلت: آمل أن أول ما تراه عينّي عيناك..
ولم تمهلني لأتحدث إليها.
سحبت صاحبة عطر الأناناس السرير متعجلة ناحية المصعد المستقر في بهو المستشفى, انتظرنا برهة, فتح المصعد بابه ودفع السرير داخله ثم الى الطابق العلوي..
أوصلتني الممرضتان لغرفة العمليات.. قالت صاحبة العطر الفواح: أتمنى لك نجاح العملية, لا تقلق لن يطول انتظارك..
اكتفيت بإيماءة صامتة فرهبة الموقف أكبر من أي لباقة كلامية أو حتى مجاملة بسيطة.. المكان يفرض نفسه فهو لا يعرف الحلول الوسط بل الحلول القطعية الصارمة.
أخذتني بقايا ذكرياتي فقبل أربعين عاما خرج ثلاثتهم للدنيا سويا, فالروح لا تسكن جسدا سواه وهو لا يتنفس روحا غيرها, ولم يقاسمهم الحياة إلا عمى وعتمة استحكما وأحاطا به من كل مكان
فتوحدو ثالوثا تمازج بمشاعره ونزعاته الإنسانية.. أربعون عاما من الظلام! أربعون عاما من عالم بلا ألوان! أربعون عاما من العيش بين الأثر الباهت! أربعون عاما من الاختباء خلف الحجب والأقنعة!
أي روح سرت في تلك القرنيتان الغريبتان!! بل أي جسد حواهما!! أم أي عالم أبصرتا!!
تحلق حولي الفريق الطبي وهم يتحدثون اللغة الانجليزية, أنكرت أصواتهم ما عدى الصوت الحاد لطبيبي قائلا: أما زلت ترغب في العملية؟ قلت: بكل تأكيد فلا عوض عن البصر.. قال أخر ذا صوت خشن وخافت:سنحقنك بالبنج من خلال المغذي مما يجعلك تهذي قليلا.. من فضلك أبدأ العد …. فقدت الشعور بأعضائي تدريجيا و ثقل لساني , واحد اثنان ثال…..***
بعد بضع ساعات علا فوق رأسي رنين منتظم متقطع.. ودون أي مقدمات تلاشى وغاب معه الوعي فجأة كم يختفي كل شيء فجئ … .
مرة أخرى عاد الوعي والرنين! أصبحت قادرا على تلمس كومة القطن فوق جبيني. أدركت بعدها بأني في غرفة النقاهة..

تخلل أذني قرع خطوات : مبروك مبروك !!
قال الطبيب: الحمد لله تمت العملية بنجاح وزرعت لك قرنيتان, اليمين سوداء واليسار خضراء! فنحن لم نجد ما يناسبك من لون واحد ولكن إذا استقرت حالتك سنجري لك عملية زراعة عدسة ملونة حسب اللون الذي ترغبه..
قلت: ولدت أعمى وأبصرت أعور!!
غادر الطبيب غرفة النقاهة .
لم أنم تلك الليلة من الآلام إلا بعد أن تناولت إبرة مسكنة .
وفي الصباح استيقظت . الهدوء يملأ الغرفة ولا أصوات في الخارج, ضغطت بأصبعي المتيبس البارد الجرس المثبت جانب السرير,
دخلت الممرضة وهي تقول:صباح الخير! هل تذكرني؟ أنا التي استوقفتك بالأمس عند مخرج الجناح..
قلت: لا, كم الساعة الآن؟
قالت بلطف: الثامنة صباحا , لا تقلق! فالطبيب سيأتيك بعد نصف ساعة لينزع الغطاء عن عينيك الجديدتين وانصرفت بهدوء .
أردت مسابقة الزمن فأنا الأكمه الذي لم يرى قط وحينما رأى صار له قرنيتان مختلفتان ليس في اللون فحسب وإنما في المصدر! فالخضراء من إنسان غربي لجمعية غربية تكفلت بأن صممت برنامج تدريبي لتأهيلي للعيش في عالم البصريات بما فيه من زوايا متعددة, وأما السوداء فمن أم شرقية أرغمها الفقر لبيع قرنيتها مضحية بها لتأمين قوت أبنائها..

فهل تتغير الدنيا بعيني؟! وهل سأراها كما رآها المتبرع الغربي أم الشرقي؟!

Read Full Post »