Feeds:
المقالات
التعليقات

Archive for the ‘قراءات’ Category

هل السماء قريبة.. ؟

وأنا أتجول بين  أرفف مكتبة جرير لفتني عنوان رواية عراقية هي ( كم بدت السماء قريبة). فمكونات العنوان سماء وقريبة ماذا يحدث حين تكون السماء قريبة؟ بماذا نشعر؟ عن ما نرتفع؟ أهو هرب من واقع أرضي أم تسامي و تسامق؟.

 كل هاتيك العوالم طافت بمخيلتي جراء هذا العنوان اللافت. عنوان لا يشي بالسر المدفون بين السطور. كانت أجواء الرواية مقسمة إلى مكانين العراق وإنجلترا. زمنها يمتد ما بين نهاية السبعينات حتى التسعينات من القرن الماضي. يميز العمل سلاسة اللغة وبساطتها وبعدها عن التعقيد والاستعارات المتكلفة. يلفتك وأنت تطوي صفحاتها ما يمكنني تسميته إن صح اللفظ  بالصور الصوتية. ولست أعني موسيقى النص كالتي يتميز بها الشعر وفنون البلاغة من جناس وجرس وطباق ومقابلة إنما ما أعنيه هو أن الرواية تستخدم ألفاظ تقريبية حتى تحاكي الصوت الطبيعي. مثلا حين تصف صوت حذاء مطاطي ترتديه شخصية من شخصيات العمل فتحاكي الصوت الذي ينتج من احتكاك المطاط بالأرض سلب .. سلب. وتصف مثلا صوت فقاعات بق .. بق. والساعة تك .. تك وهكذا. وأصوات من قبيل كرش .. كرش .. خرش .. خرش .

وأيضا يتميز الأسلوب بالصور اللونية المكثفة. فتصف بساتين الزعفرانية بالعراق. ألوان الزهور, الحشرات, الملابس, الأثاث حتى الهاتف الأخضر وقرصه وتذهيباته. والتلفاز الأبيض والأسود. ألوان المخبوزات والمعجنات. كذلك  يتسم أسلوبها بالخفة والرشاقة وقصر الجمل خاصة حينما كانت تتحدث عن طفولة البطلة ولعبها بين الحقول وجداول الماء والسواقي. ولنتجاوز هذه النقطة وندخل إلى أجواء العمل. البطلة هي ابنة أم إنجليزية وأب عراقي كان يدرس في بريطانية وتقابل مع الأم ثم راح يصف لها الشرق الساحر بكل مكونات فتنته. ثم قررت أن تترك وطنها وتسافر لتقيم في العراق المشرقي ظانة بأنها ستذهب في رحلة إلى عوالم ألف ليلة وليلة. وما أن تحل في العراق حتى تصدم بأن كل ما قد سمعته كان عالم حالم وردي (حسب وجهة نظرها) . لم تتآلف مع ثقافة الفلاح العراقي ولم تطق الطقس الحاد ولم تستطع التخلي عن أسلوب الحياة المدنية بخلاف زوجها العراقي المتشبث بالمكان بكل مكوناته المتجذرة.  هذا التباين أنجب طفلة تترعرع في كنف الغرب والشرق. ويمزقها مسير كل طرف إلى اتجاه معاكس تماما عن الطرف الآخر.

فأمها تريدها أن تتعلم في مدرسة رقص باليه وتتعلم لغات وتتلقى تعليم أجنبي وتسلك سلوك اللياقة والبروتكول البريطاني في الأكل والانضباط والسلوك.

أما الأب فعلى النقيض تماما يريد من بنته أن تلعب في المزرعة وتختلط بالفلاحات  وتتعلم اللهجة العراقية. يريد منها أنت تنشأ في الريف وتحيا هناك كما يحيا الزهر والشجر.ووظيفة الأب كانت متماهية مع أفكاره حيث يعمل خبير يصنع العطور والنكهات والأصباغ, شخصية حالمة ترتفع عن الواقع البائس وتكسو الواقع نكهة ولون ورائحة فاتنة. بخلاف الأم التي ترى في كل هذا سخف وتغافل عن الظرف اليومي الذي نعيشه ويجب أن نتعامل معه بكل صرامة حتى لو أننا تمادينا وتحولنا إلى أنانيون لا نهتم إلا بما يعني حياتنا الخاصة وحسب. حتى لو كان هذا سيلحق الضرر بأقرب الناس لنا…

(كم بدت السماء قريبة) لا تكتفي بهذا بل تجعلنا نرافق البطلة لتصف لنا أجواء الحرب الإيرانية العراقية ثم تغادر مع أمها المريضة إلى بريطانية بعد أن يتوفى أبوها وتمكث بجوار أمها منفصلة عن أرض نشأتها العراق ولا يصلها به سوى رسائل مقتضبة تكتبها لها معلمة الرقص تصف الحرب العراقية الكويتية والقصف الذي كانت توقعه ببشاعة جحافل الحلفاء التي لا تفرق بين مدني وعسكري طفل أو رجل.

 تتورط بطلة العمل أثناء تواجدها  ببريطانيا في علاقة حب مع رجل أمه أفريقية ثم تحمل منه بطريقة غير شرعية ثم تجهضه.

 يؤخذ على  العمل :

–       تشعر  أن الرواية هي  روايتان مختزلتان في رواية. فالجزء الأول الذي كان بالعراق منفصل تماما عن الثانية الذي بإنجلترا على الرغم من محاولاتها المستميتة في الربط بينهما من خلال الرسائل التي ترسلها المعلمة من العراق إلى تلميذتها بهذا تحاول خلق التناقض بين شمال وجنوب الكرة الأرضية. الأول كان  البيئة واللهجة العراقية  والثقافة المشرقية  التي من سماتها الحدود بين الجنسين  . والثاني أجواء مستشفى في بريطانيا وثقافة غربية لا حدود فيها بين علاقة الرجل بالمرأة.

–       العمل تمدد حتى شمل حربين مما يشعرك بارتباك قلم الروائية بتول الخضيري .

–       يتنامى داخلي أن الرواية تستميت لتقول كل شيء  دفعة واحدة عوضا عن التركيز في موضوع واضح ومحدد. الرواية تتعرض للتناقض بين الشرق والغرب وتتعرض للفرق في الذي يكون بين الريف في العراق والمناطق المدنية كبغداد والبصرة. الرواية تتحدث عن علاقة الحب الذي لا يعترف بالحدود الدينية بين مسلمة ومسيحي. تتطرق لوضع المثقفين قبل الحرب الإيرانية وبعدها وكيف انحسر نشاطهم. الوضع الاجتماعي أثناء الحصار. الشعور بالاغتراب. وفلسفته المرض. الأجانب كيف يعيشون في دولة خليجية. كيف يرحل العمر دون تحقيق أتفه حلم. الأخطاء التي نرتكبها ولا نكتشفها إلا وقد فات القطار. أزمة الأبناء الذين يولدون نتاج تزاوج ثقافتين ألخ , كل هذا عبرته الرواية على عجل مع أنها كلها ثقوب سوداء قادرة على أن تبتلع أعمال وأعمال سردية.

–       ختاما ليست هذه الأسطر إلا وليدة اللحظة التي  ولدت بعد انتهائي من قراءة (كم بدت السماء قريبة)  والعمل يناسب فئة الشباب الراشدين

  • كم بدت السماء قريبة , رواية عربية
  • بتول الخضيري , مؤلفة من العراق
  • المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت
  • الطبعة الرابعة 2007م / 200 صفحة  

Read Full Post »

نشرت في ملحق الأربعاء جريدة المدينة اليوم 9/1/1432هـ

ماجد سليمان الجارد

سجل أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
“سجل أنا عربي” هذا ما قاله درويش للضابط الإسرائيلي حين سئل عن هويته. وأما ما قاله قطينة في ظرف مشابه ص18 “فأنا حين طلبت إلى الضابطة الإسرائيلية مهلة لاتخاذ القرار، اكتشفت إنني للمرة الأولى أعيش أزمة حقيقية في معرفة هويتي”. كلٌّ من هذين الموقفين لجيلين مختلفين..
درويش وقطينة دفعاني لأتساءل هل لا يزال الفلسطينيون يحملون ذات الهوية الفلسطينية التي خرجوا بها مهجّرين من قراهم في نكبة الثمانية والأربعين وما قبل؟
إن كتاب (الجنسية) لمعتز قطينة الصادر عن دار أزمنة لسنة 2010م وتصميم غلافه اللافت “جواز سفر سعودي أخضر يعلوه سيفان ونخلة” ورقم العنوان والتصميم يمضيان في مدى شاسع من التأويل لماهية الجنسية؟ وهل هي تعادل الهوية؟ وهل هما استحقاق أو هبة؟ ومن الذي باستطاعته منحنا هوياتنا ولماذا؟
ما أن تعبر السطور الأولى حتى تكتشف أن الكتاب يتناول جيل الأحفاد الفلسطينيين الذين ولدوا بالخليج العربي. في محاولة جريئة لعرض استشكالات تتعلق بالهوية وهذه الاستشكالات ليست نتاجا لقضايا العمل والعمال بل شيء أبعد وأعمق إنه يلتحم بالهوية الناهضة.
فالتواجد المكاني للأحفاد الفلسطينيين بالخليج جعل هوياتهم تتعرض لعاصفة عارمة ترمي بشرر الأسئلة على مدى قرابة أربعة وثلاثين موضعًا ولا يقل الموضع الواحد عن سؤالين كلها تحاول توصيف وشرح لهوية الأحفاد ومناقشتها ومحاورتها علها ترسم ملامحها. إن اعتماد الكتاب تقنية التساؤلات زاد العمل تشويقا وبحثا عن إجابة شافية بين صفحاته البالغة 175 صفحة. بهذا استطاع الكتاب الابتعاد عن التقريرية والخطابية والقفز لمناقشة النتائج قبل عرض الأسئلة. وتلك التساؤلات قد تتعلق بذات السارد وأسرته ووطنه فكل شيء قابل لأن يعرض تحت عدسة التشريح. هي تساؤلات هامة وحساسة ليست لأنها تتماس مع الهوية الفلسطينية بقدر ما أنها نابعة من عمق التجربة الإنسانية، والمعايشة اليومية، واحتكاك مباشر مع هويات قد ولجت تلك البوابة التي تعبرها كل الإثنيات والثقافات والأعراق الإسلامية إلى الحرمين الشريفين. وعاملا آخر تحتك معه ما تحمله هذه الأرض من هويات بعضها متجذر بعمق المكان وتحركها وفق مفهوم (القبائلية) كما قررها الغذامي في كتابه الرائع القبيلة والقبائلية.
يضاف لهويات الإثنيات الإسلامية والقبائلية تفاعلها مع هويات طارئة ومؤقتة للذين قدموا سعيا للرزق ثم سيؤوب إلى وطنه الأصلي..
إن كتاب جنسية يحاول استبطان الاختلاجات النفسية التي تعتمر الحفيد الفلسطيني ص17 «من أين أنا؟ وكيف صرت أبن هذه الأرض؟ هل أنا أحب مكاني الذي تشكلت فيه أكثر؟ أم أنني أحب المكان الذي حملت اسمه أوراقي الثبوتية؟ أم أنني أنتمي إلى وهم». هذا المونولوج الداخلي المباشر (الأسئلة) ولكأنه يحاول تأسيس نوع محدث من الهوية الفلسطينية. هوية ولدت خارج فلسطين موطنها الأصلي. ناشئة في بيئة مختلفة التكوين. لذا أتت مغايرة عن هوية الأجداد الذين غرسوا حقول فلسطين وابتنوا دورها. أجداد لا يعرفون سوى الأرض التي بورك حولها، والجذور المتعرقة وكرم الزيتون ومسجد القبة وزهرة المدائن والقرى الوادعة والنجوع الهادئة.
ليست هوية قطينة تقف عند هذا فحسب بل أنها نسيج آخر تماما عن الهوية الثانية للفلسطيني. المتمثلة في جيل الأب المهجر عن قريته إثر نكبة الثمانية والأربعين. والمترحل بمفتاح بيته العتيق وذكرياته وآماله. الذي يقتات واقعه الممزق بين حلم العودة النائي واسترجاع تفاصيل الذكرى العابرة.
وأما هوية قطينة فهي هوية الأحفاد الذين لم ينبتوا بفلسطين ولم يعيشوا تجربة التهجير القسري والتطواف بمدن العالم المتناثرة ومكابدة فقر المخيمات البائسة. إنما هؤلاء الأحفاد ولدوا تحت سماء دولة نفطية، بغير اختيارهم رضوخا لإرادة منفصلة عنهم. إرادة خارجية يتنازعها الظرف التاريخي وقرار الأسرة المحض. لذا فإنها هوية تبدو بسماة مختلفة عن آبائهم وأجدادهم.
إنها مغايرة عن هوية الآباء المهجرين والتي تتصل وتمتد وتفاخر بالجذور يقول درويش في هذا الصدد:
“جذوري قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب
وقبل السرو والزيتون
وقبل ترعرع العشب
أبي من أسرة المحراث
لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحا
بلا حسب ولا نسب
يعلمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب
وبيتي كوخ ناطور
من الأعواد والقصب
فهل ترضيك منزلتي”.
وأما الأحفاد الذين ولدوا بالخليج فيقول عنها قطينة ص79: “هل يمكن لنشرة الأخبار وحدها وصور الشهداء المنثورين كل يوم أن يخلقوا ارتباطًا بعالم لا أعيشه؟! أي المبررات يمكنه أن يعقلني ببلاد لا أراها”.
هو يشعر بحالة عزلة ناتجة عن عدم المعايشة اليومية لهوية العرق المتوارث في بيئته الأساسية أرض فلسطين المغتصبة. مقررًا أن الأرض منبع كل هوية. تلك التي يقف عليها الحفيد ويمارس الحياة منها. بل أنه يتساءل باحتجاج إنكاري ص106 “ما الفرق الذي لا يجعلني قطعة من الأرض التي تحملني؟!” متشبثًا بأرضه الدارج فوقها. والتي لا يعرف سواها.
ص79 “وكنت أنتظر بخوف اليوم الذي تقول أسرتي إنه قريب، اليوم الذي سنعود فيه إلى فلسطين، لنسكن القدس، في بلادنا كما يقولون”.
شاعرًا بانفصال تام عن ارض سلالته وبانفصال عن أسرته المهجرة، منتقين لفظة توسع المسافات بين الحفيد وأسرته “في بلادنا كما يقولون” هم نبتات نمت في تربة ليست مغيرة بمعنى الوطن البديل بل تربة تمتلك صفات أخرى ثقافيًا واجتماعيًا وديموغرافيًا. إلخ يعيشون لا على سبيل التضاد بل في تواؤم تام وتجانس مع بيئاتهم التي لا يعرفون غيرها. فيستنكر الحفيد على أبيه لأنه يريد أن ينزعه ويعيده إلى ذات التربة التي تسامقة منها شجرة الأسلاف المعمرة. ص83 “كيف يفكر هؤلاء الآباء؟ يغرسون أبناءهم في تربة يختارونها، ويعتقدون أن بإمكانهم، في أي وقت، أن يطلبوا تحويل الحصاد إلى تربة أخرى!!» لذا نتج جيل الأحفاد الفلسطينيون بالخليج بسمات تهجين حديثه فيقول ص18 “وإن كنت في جدة غريبًا فإنني متآلف مع لساني، ووجهي، ومتآلف مع صورة الشوارع المليئة بالحفر أكثر من صورة الجبال التي تحتضن البلدة العتيقة” غير شاعرة بأنها قد تبدو متناقضة ومتعارضة بل لم يخطر بباله أنها على سبيل الورطة فليس هو المقيم الذي قدم لهدف شخصي وليس هو المواطن المتحدر من جذور الأرض ص 18 “لقد كنت دائمًا مزيجًا بين اثنين، دون أن أفكر بالأمر على محمل الورطة، فالأجنبي الذي يعيش فلسطينيًا في السعودية، هو ذاته الذي يقضي صيفه السنويّ سعوديًا في شوارع القدس!” وبهذا الثنائية التي سماها (الفلسعودي) ممكن أن تكون أيضا الأردفلسطيني والفلسعراقي وهكذا في تلقيح وإخصاب ثنائي متمازج متداخل لا يمكن فصلهما عن بعضهما ولا نستطيع تحديد أيهما أكثر تاثيرًا (توحد تام) فلو قدر لهذا الحفيد الفلسعودي أن يعيش في وطن ثالث فسيكون فلسعوديا وحسب. بل إن هذه الهوية تميز نفسها عن الفلسطينيين الذين يحملون جنسيات أخرى ص 117 «أنا فلسطيني لا يمكن أن يرحّلني أحد عن السعودية، يمكن للحكومة أن ترحلّك يقول لي وتقذفك إلى عمّان بسبب جواز سفرك الأردني لو أقدمت على ما يلزم ذلك، أما أنا حامل وثيقة السفر المصرية، فلا يمكن أن أغادر السعودية!”. بهذا الطرح يمنحنا قطينة زوايا متعددة لهوية الأحفاد في تساؤل عميق هل تتنوع هوية الأحفاد الفلسطينيين، كما تنوعت هوية الآباء الذين عاصروا النكبة والأجداد الذين سبقوها ولم يعرفوها؟ ولكأنه يريد القول هنا بأن من يمنح الهوية أو أكبر مانح لها هي الأرض التي ندب عليها. إن كتاب جنسية وما يحمله من هوية الفلسعودي والتي هي نتاج مكون من عناصر متنوعة: الأرض التي ولد عليها والتنشئة في مدينة جدة. ومكونه العرقي الفلسطيني. وتأثره بالثقافة السعودية السائدة. وتبخر حلم العودة لفلسطين. وانفصاله التام عن هوية الآباء والأجداد كل هذه المكونات تجعلنا متعطشين للتعرف على تشظي هويات الأحفاد في المخيمات بلبنان والأردن وغيرها؟ وهويات أحفاد الداخل الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية؟ والأحفاد الذين يعيشون على أرض فلسطين ولا يحملون سوى الجنسية الفلسطينية؟

Read Full Post »

نشرت مجلة الفصول الأربعة الليبية المحكّمة العدد 118

المجتمع السعودي ونمط الحياة المدنية .. دراسة – ماجد الجارد – السعودية – ملف دعوة للقراءة

 

المجتمع السعودي ونمط الحياة المدنية

ماجد سليمان الجارد

 

كلما فرغت من مجموعة قصصية أطرح تساؤلًا محدّدًا ما هو الرابط بين قصص هذه المجموعة؟ بعض القصاص يرون أن الرابط هو تمثيل تلك المجموعة لمرحلة زمنية يعبرها قلم مبدع. أما الأمر بالنسبة لي يأخذ منحى مغايرًا، حيث أفترض أن هناك رابطًا إذا ما لم يبديه المبدع، إنه شيء خفي بالداخل نابع من عمق الكاتب. حينما يبدع تلك النصوص تقوم بحمل خارطة جينية تورث سمات الكاتب إلى نصوصه باعتبارها وليدة لفكره ومشاعره وشخصيته. والحال في مجموعة (ربما غدًا)* لا يمكننا تجاوز إشارتها لمرحلة زمنية يتخطاه قلم شيمة، إلا أنه يصعب علي كقارئ يتفاعل مع النص الاكتفاء بهذا. ربما الذي يجمع بين تلك النصوص هو أنها كتبت ضمن تقنيات القصة القصيرة جدًّا ذلك الفن المتماس كثيرًا مع الحياة المدنية ومكوناتها. لذا أتت مضامين النصوص متوائمة وكاشفة بمجهر دقيق لزوايا معتمة بمساعدة أدوات هذا الفن. هذا التجانس الهرمني بين الفن والمجتمع يؤكد أن مدننا لم تأخذ شكلها المدني الصرف القائم على نزعة الحياة الفردية والمؤسساتية. فمدننا تزدان بطراز عمراني مدني إلا أن ساكنيها لازالوا يحملون سمات المجتمعات غير المدنية. وقد جمعت لنا شيمة سلة متنوعة من ظواهر اجتماعية تأكد فرضية أن مدننا في طور التشكيل وليست بطور النضج. لننظر مثلًا لقصة سياط حيث تأكد أن للمجتمع قوة جمعية وسوطًا يجلد به كل مخالف عن السائد أو الموروث. فيطال سوطه كل من يعمل عقله ويفكر، كما في قصة سواد تصور التهم التي يلفقها المجتمع إلى المثقفات لكونهن يحملن أفكارًا مغايرة عن الأفكار التقليدية والتي تحبس رؤى المرأة. بل إن ثقافتنا القبلية نقلت عدوى العنصرية إلى مدننا فلم تستطيع التخلص من تلك النزعة وقامت بتوزيع الأحياء على هذا المبدأ. حي البدو وحي التكارين وحي البخارية وحي الشوام وحي الحضر “كما فرق بينهم العرق في الزواج يفرق بينهم السكن”!! فقصة عرق تتعرض لجدلية تنافر السواد والبياض سواد القلوب وبياض البشرة، عدم التمازج هذا ساهم بشكل ما في جعل الأنثى تنتظر رجلًا لا يأتي مصارعةً شبح العنوسة كما في قصة انتظار وبقايا. ترصد ظاهرة غريبة من خصوصيات مدننا الناشئة في قصة ثرثرة النون التي تناولت زواج المسيار. إن (ربما غدًا) تعرضت لقضايا مدنية صرفة مثل مجتمعات المثقفين وهمّ الكتابة كما في قصة رأي، مرض، قلم، إضراب كلها تأكد وجود داخل مدننا طبقة المثقفين الذين هم نتاج مدني صرف. ولم تغفل الشمري العلاقة بين الرجل والمرأة، المرأة المتشظية بين زوجها وأبنائها وعملها. كما في قصص ندم وقيد وهروب وصدفة. وفي (ربما غدًا) كشف لعالمين ظاهر وآخر قائم في الظل وتبقى الحياة ممزقة بين العالم الافتراضي الإنترنتي والعالم اليومي المعايش وذلك بقصة غفلة وجنية. وما نشاهد في طرقات مدننا من زيف الأقنعة، حيث تطرقت لها في قصة الدش، خطيب مسجد يلعنه كلما اعتلى المنبر ويتابعه إذا نزل عنه. مثلما رصدت للمكون غير المادي للمدينة فإن (ربما غدًا) لم تغفل العناصر المادية التي تتكون منها مدننا. المكان المدني كالفندق والسوق والمقهى ولو عرجنا بعجالة إلى المقهى. فسنجده حاضرًا باعتباره مكانًا مدنيًا صرفًا. ويقوم بوظيفة نوعية داخل المجتمع المدني: – حيث تتم بين ثناياه الاجتماعات بدلًا من المنازل. – مانحًا مساحة أكثر رحابة وابتعادًا عن الرسميات. – مكان للأصدقاء. – مكان يخلد إليه الإنسان ليتأمل وينعزل مع ذاته. – والمقهى قد يكون مكانا يتصالح به الزوجان كما حدث في قصة ندم. – هو مكان للقاءات العشاق. كل تلك الأنماط يمنحها المقهى باعتباره منتجا مدنيا لا يتوفر لغيره. (ربما غدًا) بعنوانها الاستشرافي ونصوصها الإبداعية تريد لفتنا إلى رغبة المجتمع الحثيثة في تأكيد الجمود والانكفاء على العادات والتقاليد من خلال نقلها معه إلى المدن الناشئة. إنها تطرح تساؤلًا هل تستطيع الحياة المدنية بمنجزاتها إقامة مجتمعات سعودية مدنية الثقافة غير جامدة الفكر؟

(*) (ربما غدًا) مجموعة قصصية صادرة عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي لشيمة الشمري 1430هـ/ 2009م، عدد الصفحات 119 صفحة

 

Read Full Post »

قد تفضل ملحق الرسالة بجريدة المدينة اليوم بنشر تحقيق

بعنوان ” الرواية فن حاضر هزم القانون .. “

وقد شارك به  الروائي والقاص صلاح القرشي ,الروائي علوان السهيمي ,وماجد الجارد , والشيخ إبراهيم الحمد , وشاب يقرأ الروايات محمد المالكي .

ونظرا لفشلي بالحصول على الرابط ولا يوجد لدي نسخة كاملة من التحقيق.

فإنني أضع نموذجا لا يغني ولا يسمن من جوع. فليت أحد يستطيع تزويد المدونة برابط  اللقاء من ملحق الرسالة حتى تكتمل اللوحة ولا تصبح مبتورة كما رسمتها هنا.

ملحوظة / لم تنشر الفقرة الأخيرة من مقالتي .

الرواية فن يقع على تخوم المتخيل والواقع. مترعا بالمعرفة. يطرح الأسئلة حول الإنسان ووجوده وحلمه وأمله وألمه في تقاطع  مستمر  مع  اليومي والواقعي. ولذالك  هل الكاتب مرآة  لمجتمعه؟ أم المجتمع مرآة تعكس الكاتب؟ إنه  يصعب علينا تحديد  أيهما الذي يعكس صورة الآخر ويهيمن عليه. وهذا لطبيعة  العلاقة المتبادلة  والجدلية بين الكاتب والمجتمع, فالكاتب حين يبدع روايته هي  تنبع  من  فكره وتأمله  وتجربته ورؤاه, أيضا  في نفس الوقت  هو فردا منتميا ونسيجا متداخلا مع  مجتمعه. ألم يقولوا( الإنسان ابن بيئته ) فالروائي ابنها الذي يكتبها. هنا  تظهر لا أقول خطورة الرواية بالمعنى السلبي بل أهميتها  التفاعلية والخصبة, حيث  تضع المجتمع على طاولة التشريح, وما يحيط به من قضايا  هامة, وأزمات خانقة, ومنعطفات مصيرية  يعبرها.

إن  الرواية باعتبارها  عمل معرفي  تضيء  الزوايا المعتمة, وتصف  ما يسود من مفاهيم وعادات وتقاليد ضمن إطار فني  للحالة الراهنة. وأما تخطي هذه المرحلة وقفزها لأن تتحول  إلى خطاب وعظي, أو مأدلج, أو يطبق  الحلول فليس هذا شأنها.

نحن  حين نفترض أن لها تأثيراً سلبياً  على الأخلاق, لابد لنا من التحقق في مدى صحة هذه الفرضية والتي تسائل وتحاكم الرواية.

 باعتقادي أنه رابط وهمي واهن فلا تؤثر الرواية على الأخلاق  لسببين :

الأول هو إن مجتمعنا  مهووس  بتقديم السوء  قبل أن يمنح نفسه فرصة للتعرف واستبطان الحقيقة. ألسنا قبل عقود كنا نرتاب من السيارة حين دارت دواليبها فوق هذه الصحراء! وكان النساء يلقين عليهن بجلابيبهن أمام المذيع الذي يطل من نافذة التلفاز! ثم حاربنا تعليم المرأة! وقبل سنوات قريبة أقمنا الدنيا ولم نقعدها لمّا أتى البث الفضائي.

 واليوم شوارعنا تعج بالسيارات الفارهة. وأموال تجارنا تستثمر في أكثر القنوات الفضائية انتشارا وتأثيرا في الوطن العربي. وبناتنا يبتعثن إلى الغرب الذي نتهمه بالمتردي أخلاقيا.

 والآن نعود لندور في حلقة مفرغة حيث  نشهد هجوما مشابهاً على الرواية السعودية. حقيقة لست أعلم لماذا هذا الهوس والسعار بأن كل شيء يؤثر سلبا على الأخلاق؟! وكأننا نعيش مجتمع مغاير عن كل المجتمعات البشرية التي تعمر الأرض.

 ثم السبب الثاني : حين ننظر لانتشار  الرواية  المفسدة للأخلاق فإننا نتهم القارئ السعودي بأنه ساذج غر أحمق لم يبلغ سن التميز ويتعذر عليه التفريق بين  الكتاب الجيد من الرديء. أم لأن الرواية جنس غربي المنشأ نصفها بالفاسدة كما نطلق أحكامنا المعممة عليهم !؟.

ولو التفتنا  سريعا لوجدنا أن عمر  الرواية في الوطن العربي  قارب القرن. وأصبح القول أنها فن أدبي دخيل شيء من السذاجة والسطحية الضحلة .

 ثم إننا إذا   أعدنا القراءة من هذا المنظور المهووس  لكتب  الأدب  التراثية  وأقربها كتاب ألف ليلة وليلة, والأغاني, والامتاع والمؤانسة, وخزانة الأدب, والمستطرف إلخ. وما نقلت لنا من أخبارهم, والقصائد الغزلية  التي كتبها الفقهاء  لتوصلنا لذات الحقيقة الموهومة التي نعيشها اليوم, ولحكمنا على كتب التراث أنها تفسد الأخلاق, وستستعر  مطالباتنا  بالتخلص من كتب التراث التي خلدت لنا أدبا زاهيا ماتعا مفيدا.

 وبالنسبة لهيمنة الرواية على المستوى القرائي, لو نظرنا للإقبال المتزايد  الذي نشهده في معرض الكتاب, وانتعاش المكتبات, وسهولة اقتناء الرواية ورقيا أو ألكترونيا, ويضاف لهذا طبيعة الرواية كفن وقربه من الحياة اليومية وهموم ومعاناة الإنسان, وأنها تتحدث بلغة عصره التي يفهمها وبالمنطق الذي يقنعه, لتأكد أن الرواية هي لسان العصر وديوانه. 

وأما دورها في تشكيل وعي الشباب, لا أنكر هذا بل أأكد عليه فالرواية تتيح للشاب القارئ زوايا أوسع, وشساعة في المدى بما تحويه من عوالم معرفية متداخلة ومتنوعة  تاريخيا وسياسيا وفكريا, وما تعرضه  لمجتمعات أخرى عاداتها وتقاليدها. إنها تمنح فرصة للشاب   أن يتعرف  على الآخر بكل تدرجات  ألوان طيفه. حيث معظم شعوب العالم متقدمها ومتخلفها, غنيها وفقيرها  تكتب الرواية. فنقرأ لأحمدو كروما  عن معانات الحرب القبلية بين أدغال القبائل الأفريقية. ونقرأ  عن  شعوب تعيش بين  أوعر الجبال بداغستان مع رسول حمزتوف. ونتعرف على أجيال ماركيز المتعاقبة على قريته الواقعة بأمريكا الجنوبية. ونتعرف على حضارة المشرق الصيني  وتقاليدهم  الصارمة التي نقلتها لنا  رواية  الخياطة الصينية. ونتجول في قاهرة محفوظ, وجزائر مستغانمي, ونحضر عرس الزين في قرى الطيب صالح .

 إذا متى يكون الروائي متجاوزا بروايته؟

 نعم ذلك في حالات حين يتهجم على ثابت ديني كالتجديف  على الذات الإلهية تنزه  سبحانه وتعالى. أو الرسل والملائكة, والدين الحنيف السمح. أو يتهجم بالتجريح والتجني على إنسان بعينه. أو يورد  معلومات مضللة ومشوهة.  فما عدى ذالك فمباح الحمى.

 

 

Read Full Post »

زنزانة الورد

زنزانة الورد

ما إن قرأت عنوان قصيدة ( السجينة ) للشاعر إيليا أبو ماضي عبرت أمامي صورة  سجينة ذات ملامح بربرية أصيلة , إلا أن الفارق الزمني بين الشاعر الذي عاش في المهجر أوائل القرن العشرين , وبين تلك السيدة المغربية  التي لازالت تعيش في القرن الواحد والعشرين جعلني على يقين أنها ليست المعنية بالقصيدة.

 فامتلكتني نشوة التأمل هل يمكننا الممازجة بين سجن زهرة في إناء أنيق  والسجينة المغربية مليكة أفقير!؟  .

 تلك الفتاة التي قطفت من بيت أبيها الجنرال أفقير وزرعت بين ردهات وغرف وقاعات القصور الملكية المغربية . ثم حين مل منها , عمدت تلك اليد التي انتزعتها من عائلتها وبيئتها الطبيعية إلى أن تجففها بلا ذنب فألقيت في عتمة السجن لتذبل شيئاً فشيئاً على مدى عشرين عاما ً…

حين كانت في القصر ومن حولها الحياة الناعمة كان يملأها حنين عميق  كحنين الزهرة المسجونة في إناء أنيق, ويعلوها شحوبا  وحزنا كحزن إيليا أبو ماضي  حين رأى زهرة في البرية .

 وللتو يحل الفجر عقد جفونها المغمضة طوال الليل . وشمس الشروق  تهدي النباتات حلية ذهبية رقيقة  لتلمع من بين بتلاتها الغضة  حبات من ندى لؤلؤي . ولكأنه إيليا أبو ماضي  يصور  أرواحنا وهي تخفق بالطمأنينة  على سجيتها الإنسانية النقية . ولكن حينما نجتث من واقعنا , من جذورنا , من بيئاتنا , ويلهو بنا الآخرين كما يشاءون ويرغمونا على ما هم يريدون ,  ويمتلكهم نشوة الاستمتاع وحب التملك والسيطرة  حين  يروننا ونحن نمتطي صهوة  جواد  يحمحم خلف تخوم التلاشي . وتلتقي في وادي الصمت :  قلب الزهرة , وقلوبنا , تخفق مضطربة بصمت  ثقيل لا صدى يصل  لأرواحنا  ولا  يتردد في أرجاء الوادي .  يتضخم خفق القلوب المنطوية على حنينها وهي تقف بمفردها  في مواجهة مباشرة مع قلب الجاني الذي  يبرز أنياب نرجسيته وأنانيته .

 لذا تنتكس الحياة ويتحول معها الغروب لشروق , والنعيم لجحيم .

 الزهر لا يكترث بمظاهر الحياة الفارهة . 

في هذا العالم البديل والطاغي السحر نفقد روعة الدهشة, والبساطة والعفوية , فلا يلفت أبصارنا  بريق الثريات  الكرستالية التي تطل من سقوف القصور , والتي لا  تقارن  بمتعتنا الطفولية   حين نطارد  ومضات الحشرات المضيئة  وهي  تغزل من خيوط الضوء  سجادة  الليل الداكنة  .  وتراقصنا  بين الأغصان والأوراق الخضراء  وانتشاء أمانينا  كالفراشات المتطاير تحت نور الضحى الدافئ  , وأمام خطانا  المرحة  تمتد حلة العمر العشبية  الزاهية. عند تلك العتبة من الأمان عندها  يعبث بنا  الحرمان فيخبو  صوت الحياة وهي تحيا وتتجدد . عندها تذبل  الأزهار في أصاصيها وتمرض  من أنوف المستنشقين و يتبخر شذاها الذاهب , تشحب ألوانها ويخبو بريقها  , وليس هذا السجن للزهر  هو أشد ما تجده إنما القادم أبلغ في التنكر  حين تذبل وتموت ينزعها من قطفها كما نزعها من براءتها الأولى ويلقيها في الطريق لتطأها أحذية العابرين .

 

إيليا أبو ماضي

السجينة

لعمرك ما حزني لمال فقدته .. ولا خان عهدي في الحياة حبيب

ولكني أبكي وأندب زهرة .. جناها ولوع بالزهور لعوب

رآها يحلّ الفجر عقد جفونها .. ويلقي عليها تبره فيذوب

وينقض عن أعطافها النور لؤلؤا .. من الطلّ ما ضمت عليه جيوب

فعالجها حتى استوت في يمينه .. وعاد إلى مغناه وهو طروب

وشاء فأمست في الإناء سجينة .. لتشبع منها أعين وقلوب

ثوت بين جدران كقلب مضيمها .. تلّمس فيها منفذا فتخيب

فليست تحيّي الشمس عند شروقها .. وليست تحيّي الشمس حين تغيب

ومن عصيت عيناه فالوقت كلّه لديه .. وإن لاح الصباح ، غروب

لها الحجرة الحسناء في القصر إنما .. أحب إليها روضة وكثيب

وأجمل من نور المصابيح عندها .. حباحب تمضي في الدجى وتؤوب

ومن فتيات القصر يرقص حولها .. على نغمات كلهنّّ عجيب

تراقص أغصان الحديقة بكرة .. وللريح فيها جيئة وذهوب

وأجمل منهنّ الفراشات في الضحى .. لها كالأماني سكنة ووثوب

وأبهى من الديباج والخزّ عندها .. فراشٌ من العشب الخضيل رطيب

وأحلى من السقف المزخرف بالدمى .. فضاءٌ تشعّ الشهب فيه رحيب

تحنّ إلى مرأى الغدير وصوته .. وتحرم منه ، والغدير قريب

وليس لها للبؤس في نسم الرّبى .. نصيب ، ولم يسكن لهنّ هبوب

إذا سقيت زادت ذبولا كأنما .. يرشّ عليها في المياه لهيب

وكانت قليل الطلّ ينعش روحها .. وكانت بميسور الشّعاع تطيب

بها من أنوف الناشقين توعّك .. ومن نظرات الفاسقين ندوب

تمشّى الضنى فيها وأيار في الحمى .. وجفّت وسربال الربيع قشيب

ففيها كمقطوع الوريدين صفرة .. وفيها كمصباح البخيل شحوب

أيا زهرة الوادي الكئيبة إنني .. حزين لما صرت إليه كئيب

وأكثر خوفي أن تظني بني الورى .. سواء، وهم مثل النبات ضروب

وأعظم حزني أنّ خطبّك بعده .. مصائب شتّى لم تقع وخطوب

سيطرحك الإنسان خارج داره .. إذا لم يكن فيك العشية طيب

فتمسين للأقذار فيك ملاعب .. وفي صفحتك للنعال ضروب

إسارك، يا أخت الرياحين ، مفجع .. وموتك، يا بنت الربيع ، رهيب

ولكنها الدنيا، ولكنه القضا .. وهذا، لعمري ، مثل تلك غريب

فكم شقيت في ذي الحياة فضائل .. وكم نعمت في ذي الحياة عيوب

وكم شيم حسناء عاشت كأنها .. مساوىء يخشى شرّها وذنوب

*******

تبر : الذهب و شبه الشاعر شروق الشمس الذهبي الذي يطلي النباتات بلمعة التبر

مضيمها : الضَّيْمُ الظُّلْمُ. وضامه حَقَّه ضَيْماً: نَقَصه إياه.

الحُباحِبَ : طائر أَطوَلُ مِن الذُّباب، في دِقَّةٍ، يطير فيما بين المغرب والعشاء، كأَنه شَرارةٌ.

الخضيل :العشب الناعم الرطب , العرب تقول: نزلنا في خُضُلَّة من العُشْب إذا كان أَخضر ناعماً رطباً.

الضنى : السَّقِيمُ الذي قد طالَ مَرَضُه وثَبَتَ فيه

أيار : أحد شهور الربيع

Read Full Post »

زاوية البصر

 

(زاوية البصر)

 

( لمحه في رواية اسمي أحمر )

 

  ما إن يقع بصرك عليها حتى يجذبك لون غلافها الغريب , كاتبها اورهان باموق  الحائز على جائزة نوبل لعام 2006 م و قد أمضى كاتبها أربعة أعوام يجمع المادة  العلمية الصارمة , وستة  أعوام أخرى في كتابتها .رواية  مارثونية طويلة النفس  تذكرك بروائع الأدب الروسي , إلا  إنها  بخلاف الأدب الروسي الذي لا يبدأ الأحداث  حتى تطوي الصفحة خمسمائة , وأما  روايتنا التركية  (اسمي أحمر) فتبدأ الجريمة مع أسطرها الأولى ,  فتفاجئك بأن  جثة تتحدث إليك وليست الجثة فحسب بل كل شخصية في العمل  كانت تحاول لفت انتباهك طالبة منك الإصغاء والاقتناع بما تقول لك وفي سبيل  تحقيق  غايتها لن تتوانى في  تنميق ونسج الحكايات بل تكذب عليك بقصد ومن ثم تقدم اعتذارها إليك  . الجميل في هذا العمل أن مكوناته أتت من وحي البيئة التي خرجت منها – لقلق , وزيتون, وفراشة, وحصان, وكلب, وكبير النقاشين  العثمانيين, معلم تذهيب, حتى شجرة, وشيطان, وموت, ولون أحمر,  وقطعة معدنية مزيفة , كل هؤلاء وأكثر  نقشوا لنا  لوحة أسطمبول في عام ألف للهجرة ,  مقاهيها ورائحة قهوتها , ورؤوس نرجيلاتها , وزواياها و خلواتها, مساجدها, نقش خاناتها, حلاقيها, حماماتها, أحواض الماء الحار وأريج الصابون , أسواقها, خرائبها المحروقة, أحياءها العشوائية ,  عدة الأفراح والمآتم , الأطعمة , أحوال  الطقس , قصر الخلافة , الملابس والأزياء , باعتها المتجولين, الحكواتية فيها .

ولكي لا نتشظى كثيراً في هذا العمل المتلاطم الأمواج  سأحاول قدر  جهدي  أن  أفهم   المسألة التي عرضت لها بشكل مميز  وهي اختلاف  النقش  (الرسم ) بين المسلمين  والأساتذة الإيطاليون في القرن السادس عشر الميلادي .

بعبارة أدق هل الزاوية التي ينظر منها كلا من  الرسام أو المتذوق  لها تأثير في ما تريد التعبير عنه تلك اللوحة  الفنية  ؟. رواية  اسمي أحمر ناقشت مسألة مهمة, ما هو موقف الإسلام من فن الرسم ؟ هل منعه تماما؟   وهل ضوابطه   الدينية أعاقت تطوره  ؟.

وذلك لأن الإسلام الحنيف  يحذر من رسم ونحت ذوات  الأرواح .

 لذا ففرشة الرسام  المسلم  قد أوجدت البدائل  ولم تخرق هذا الضابط بشكل  قصدي فعمدت لابتكار فن الخط العربي والزخرفة بقسميها النباتي والهندسي

والأرابسك والخزف والفسيفساء والسيراميك .  فرسم جنات ذوات أفنان ملتفة  الأغصان والأوراق لتأكد  معنى تداخل الحياة بجانبيها المادي والروحي . ومهرها بزخارف متقاطعة متماسة متجاورة ملتفة محددة الزوايا ومتماهية الأشكال الهندسية. فبدلاً من رسمها حيوان أو إنسان على هيئته الطبيعية رسمت أصول ذوات الأرواح  من منظور مجرد . نرى  عصفوراً على هيئة ورقة أو زهرة أو بقوائم ونهايات بأشكال  هندسية . وبهذا لم يضاهِ الرسام المسلم  خلق الله

سبحانه بل رسمه من منظور أن كلا منهما الرسام والعصفور, مخلوقان ينعمان بجمال الخالق  المبدع سبحانه .

وأما الأساتذة الإيطاليون فقد عمدوا لرسم الحياة كما هي على الطبيعة ومحاولة محاكاتها كما هي .

ومن هاتين  المدرستين في الفن نستطيع تلخيص  منظورين للرسم . فالزاوية التي  يرسم منها الرسام لوحته ستحكم عليه بالطريقة والموضوع الذي سيتناوله .

فالمسلمون يعتمدون المنظور الساقط العلوي بمعنى أنك حين ترى اللوحة الإسلامية فكأنك تنظر اليها من أعلى إلى أسفل وكأنك تعتلي أعلى منارة  في المدينة وتنظر للشوارع والأحياء والناس أسفل منك .

وأما الأساتذة الإيطاليون فقد اعتمدوا النظرة الأفقية وكأنك تنظر للشارع من خلال نافذة غرفتك السفلية . أو كما شبه صاحب اسمي احمر كأنك تنظر بعيون المارة . فترى الكلب القريب منك بشكل كبير والرجل البعيد عنك بشكل صغير جدا أي أنهم اعتمدوا مقياس الرسم فالأشياء يتحكم في حجمها مدى قربها وبعدها منك  بحيث كلما قرب الشيء كبر وكلما تباعد صغر .

المسلمون لماذا اعتمدوا منظورهم ولم يعتمدوا طريقة الغرب لأنهم يعللون هذا بالتأدب في رسم الأشياء فليس من المعقول أن يكون الكلب القريب مني أكبر من منارة  المسجد التي تبعد عني كثيراً .

لذا المنظور الساقط العلوي يعطي تساوي وعدل في رسم الأشياء فنرسم المسجد كما نراه من أعلى  ونرسم كلاب السكك كما هي بقعا متشردة متشظية .  وبظني هناك تفصيل ابداعي آخر  فالإيطالي الذي يرسم الأشياء كما هي في الحقيقة ليس  إلا عدسة (كميرا) تلتقط لنا دون تدخل كبير  للحالة النفسية والمزاجية والحصيلة العلمية  للرسام . فيقتصر جل موهبته على استنساخ الواقع ومحاكاته .

وأما الرسام المسلم فيأخذ من واقعه عناصر الجمال ثم يمزجها بخلفيته المعرفية ويخرجها على شكل نقوش  متجانسة متناغمة على الرغم من اختلاف وتباعد عناصرها .

وخير شاهد في هذا النقوش التي تزين  محاريب وقباب المساجد .  قد يتبادر لذهني كيف هذا والنقوش هي خطوط وأشكال لا توجد في الواقع !.  صحيح تلك اللوحات لم تستنسخ من واقع الحياة لكن الرسام المسلم نقل إلى داخل لوحته

عناصر الحياة وروحها فنلحظ  إذا تأملنا قبة  نجد أن في لوحتها عنصر الحركة والسكون حيث لابد على المتذوق أن يجيل البصر في كل زوايا الرسمة  بعناصرها المختلفة – منقار طائر, جناح عصفور, ثمرة , ورقة, التفافة غصن , قرن غزال , جذع شجرة, كلمة بخط رشيق-, كل هذا وأكثر  تفيض على روحك معنى الحركة  حركة  الحياة .

 وأما السكون فإن ثبت نظرك لنقطة محددة ستجد وحدة رسمية تغوص في داخلها وتتاملها تأملاً صوفياً عميقاً .

إذا فالنقوش الإسلامية وحّدت الفكرة  بتناغم عناصرها . فنجد أن اللوحة ممكن أن نتلذذ بها من الوحدة الصغيرة المكتملة وننتقل  إلى الأكبر فالأكبر . أو إننا لنتلذذ بها بشكل  مختلف من الأكبر إلى الأصغر . والجميل أن كل هذه العناصر مكتملة الوحدات ومتجانسة ومتناغمة مع جارتها . أليست الحياة هكذا نحن ننظر للمجرة التي نعيش فيها ثم مجموعتنا الشمسية ثم كوكب الأرض والقمر ثم كوكبنا ثم السماء والأرض ثم الماء والهواء والتراب  ثم  النبات والحيوانات… إلخ .

أو أننا ننظر  للموجودات بالعكس من  الذرة ومكوناتها إلى الأكبر  والأكبر وكل تلك العناصر صغرت أم  كبرت تحمل في داخلها مقومات حياتها المستقلة ومنفصلة عن جارتها لكن متناغمة وهكذا أتت  فرشات المسلم .

الم يبق  بعد  سقوط الأندلس فرقة اسمها المدجنون تحاول محاكاة النقش الإسلامي بل أنهم للطرافة كانوا يكتبون  آيات من القرآن ظانين أنها  أساليب في النقش الإسلامي .  لكن الإيطاليين في الحقيقة أوجدوا وبرعوا في  إضافة  البعد الثالث للوحة فيكسبها عمقاً للداخل بحيث أنك تشاهد الحياة كما هي ويتطلب هذا الدراية في توزيع عناصر  اللوحة ومعرفة المقاييس المناسبة التي إن اختلت ستفرغ اللوحة من روحها التجسيمي . وأما المسلمون فقد نظروا من زاوية أخرى بحيث  استبدلوا التجسيم بالعمق الوجداني التأملي فلم يقصدوا رسم ذات الشجرة بل معناها. لذا فالنقاش المسلم حين يتقدم به العمر ويكف البصر  لا يتذمر بل يعتقد أن العمى أفضل وأثمن مكافأة يهبها له ربه حيث أفرغ بريق بصره في تتبع الجمال والإبداع وتشربها قلبه وعقله وروحه ولم يبق عليه سوى الانكفاء والتأمل والغوص في المعاني

 

من هذا كله لن أفعل كما فعل بعض النقاد بأن وضعوا المدرستين في ميزان التناقض بل سأحتفظ بهما في سحارة الجمال .

 

( نشرت في ملحق الأربعاء بجريدة المدينة الموافق 16/11/1430هـ , 4/11/2009م )

Read Full Post »

أنثى خُضَبَا

 

أنثى خُضَبَا

 

حين أخلد لفراشي أُدخل معي ديوان للشعر أتناول منه قصيدة أو إثنتان  كمحسن للأحلام وطارد للكوابيس .   وذاك لأن كلا من  الشعر والحلم هما القادران على التحرر من أغلال الزمن والتحليق في سماء الخيال المنبعث من خفقات الروح المتأملة .

 وفي ليلة قريبة شرعت  في كتاب حديث اسمه ( كتاب الحب وحروف العشق من إبداعات نزار قباني جمع هيفرون حريري ).  

            ومرّت على لين الوسادة صورتي

                     تخضّبها دمعاً وتغرقها شجوا . 

على أعتاب هذا البيت  أقف متأملاً ومختزلاً دفعة واحدة  نوافذه وردهاته أسائل نفسي  ماذا يمكنه فعل بيت واحد ينزوي وسط أبيات قصيدة.

 ما معنى شجوا ؟ ولماذا استخدم تخضّبها ؟ .

الخضب هو الصبغ بالحناء , وشجوا الحزن وصوت شجي صوت عذب وغناء  طروب , وشج أي جرح .

من هنا ابتعدت دفعة واحدة عن واقعي وفقدت جاذبية الزمان والمكان  .

 ومرّت على لين الوسادة صورتي ……

  يخبرنا فيه المحبوب  عن  العبور اللطيف لصورته  على لين الوسادة التي  ترسم فوقها  ريشة   العشق  الحالمة  عالمها الشفيف .

هنا توقعت أن الشطر الثاني سيستمر في الحديث  عن نفسه . ولكنه  نقل المشهد لمكان آخر محبوبته الساهرة الأرقة .

                   و مرّت على لين الوسادة صورتي  

                           تخضّبها دمعاً وتغرقها شجوا .  

بيت أفزع طائر النوم وراح يرف  بجناحيه العريضين ناحية الشرق البعيد  . 

و ينبش ليلي الأرق مفتشاً في وسادة تفكيري ….

الأول بعد أن  ترآى للمحبوبة صورة حبيبها على وسادتها نقشتها بدموعها  نقشاً عشوائي  لكنه   مثير كنقش الحناء على راحة الكف .

والثاني  بما أن هذا الدمع ليس دمع عادي بل إنه دمع الذكريات النابع من  حمرة القلب فإنه تغير صفة  لونه  من مائي   شفاف لامع  إلى أحمر حنائي . 

والثالث هو كما أن المحبوبة غارقة في الحب هي قادرة على إغراق  أي شيء يعبر  فوقه صورة حبيبها .

والرابع  تغرقها شجوا تغرقها أغراقاً أليماً  ليس بالدمع  الحنائي الأحمر وحسب بل  حزناً وشوقا ولهفة وبكائاً شجياً يشج الروح  والقلب .

 يا الله كم من  الساهرين الآن .

كم في حيّنا , وكم في مدننا , وكم في عالمنا من وجهين بائسين حالمين  

 

 

يترآى  كل منهما  للآخر , وجهان ينتظران  لحظة معجزة  تنقلب فيها الصورة لحقيقة يتلمسها كل منهما  بأنامله.  ولكن يحول بينهما ما يحول من قدر صارم  أو جفوة قلب  .

من كتاب نزار قباني ( كتاب الحب وحروف العشق)

قصيدة / أُكتبي لي

 

إليّ أكتبي ما شئت .. أني أحبُّهُ

و أتلوه شعراً .. ذلك الأدب الحُلْوا

و ممتص أهدابي انحناءات ريشة

نسائية الرعشات .. ناعمة النجوى

عليّ اقصصي أنباءَ نفسك .. و ابعثي

بشكواكِ .. من مثلي يشاركك الشكوى؟

لَتُفرحني تلك الوريقات حُبِّرتْ

كما تُفرح الطفل الألاعيب و الحلوى

وما كان يأتي الصبر.. لولا صحائف

تُسلّم لي سرَّا .. فتلهمني السلوى

أحنُّ إلى الخط المليس .. ورقعة

تَطاير كالنجمات أحرفها النشوى

أُحسك ما بين السطور ضحوكةً

تحدّثني عيناك في رقةٍ قصوى

تغلغلت في بال الحروف مشاتلاً

و صوتاً حريريَّ الصدى , وادعاً حُلْوا

رسائلك الخضراءُ .. تحيا بمكتبي

مساكبَ وردٍ تنشر الخيرَ و الصحوا

زرعت جواريري شذاً و براعماً

و أجريت في أخشابها الماء و السَروا ..

إليَّ أكتبي إما وُجِدتِ و حيدةً

تدغدغُكِ الأحلام في ذلك المأوى

و مرّت على لين الوسادة صورتي

تخضّبها دمعاً .. و تُغرقُها شجوا

وما بك ترتابين هل من غضاضةٍ

إذا كتبتْ أختُ الهوى للذي تهوى ؟

ثقي بالشذا يجري بشَعْرِكِ أْنُهرا

رسائلك النعماء في أضلعي تُطوى

فلست أنا من يستغلُّ صبيةً

ليجعلها في الناس أقصوصةً تُروى

فما زال عندي .. رغم كلّ سوابقي ..

بقية أخلاقٍ .. وشيءٌ من التقوى

                                                               ***********

Read Full Post »

 

الثالوث

( قراءة في رواية السيد إبراهيم و أزهار القرآن . نشرة في جريدة الاقتصادية )

 

 

من النادر تقرأ عمل يتسم  بحيادية مطلقة ولكن  رواية السيد إبراهيم وأزهار القرآن للكاتب إرك إشليدوت اقتربت من المطلق بتلمس القواسم المشتركة بين الديانة اليهودية والمسيحية  والإسلام.  

ولم يتكئ العمل  على الأسلوب الفخم والرصين  والحبكة الروائية المتقنة  وإنما  قوة العمل تستند على  لعبة التناقض  المولدة للأفكار المعمقة فتوليفة  المكان والزمان والشخصيات إذ تتفاعل لتوصلك لحالة وعي  إبداعي ساحر .

 ولنبدأ من  مكان  الرواية باريس  بالشارع الأزرق ذا  الغالبية اليهودية ولا  يوجد  بالشارع الأزرق إلا  بقاله وحيدة يملكها إبراهيم المسلم المهاجر من الهلال الذهبي  . ويضاف لذلك دقة  اختيار  زمن العمل ستينيات القرن المنصرم  والتي كانت تعج بالصراعات العالمية  .

ما يعنينا هنا  أن التناقض المولد للأفكار لا يقتصر على الزمن والمكان بل يطال  أشكال  العلاقات بين أبطال العمل  وكيف تنظر لذاتها وللمحيطين بها .

 فالأب  اليهودي المحامي الفاشل يتصور أن  المال  وجد لا ليصرف بل ليدخر يعتقد اليهودية هي أن تتذكر الآلام  وإيمانه بأن الأشياء لها معاني خفيه صعب و عسير.  وانتهاء به الأمر  بإلقاء نفسه تحت القطار  ثم تأتي شخصية الزوجة  التي لم تستطع الاستمرار مع البخيل لتهجر ولدها وزوجها وتختفي ثم يعاودها حنين الأمومة فتبحث عن موسى ابنها  وتجده في نفس البيت الذي تركته فعرفها ولكن لم يفصح لها عن شخصيته الحقيقية.

ويوصلك منطقية العمل بسلاسة للابن  موسى الشاب اليهودي ضحية  الأب البخيل والذي يعامله بصلف  ما دفع موسى  لاتخاذ ردة فعل عكسية ممزوجة بالكراهية والسلوك السلبي فيكرس جهده لتوفير  المال  فيشتر للمنزل  أطعمة رديئة ويسرق من  البقال وأبيه ثم  يسرفها في ملذاته. موسى حائر  يتساءل  ما  الدافع  لابتعاد المحيطين عنه   وأول من هجره أمه حين ولدته وهجره أباه عند ما  بلغ. دائم الحزن يرى أن الفرح والابتسام  لا يقدر عليه إلا الأغنياء وينظر للعالم  بعيني أبيه. وما يلبث هذا البائس حتى يتبدل   يتنكر لشخصيته القديمة ويبدل اسمه لمحمد

ويصبح البقال  العربي المحلي الذي يفتح من الثامنة صباحا إلى ما  بعد منتصف الليل وحتى  أيام الأحد  .  ونتاجا لتفاعل الشخصيات الثلاثة السابقة  ننجرف ناحية النقيض تماما هذه  الأسرة   اليهودية ,  إبراهيم  المسلم المقبل على الحياة المتفائل السخي الوفي لزوجته المتوفاة    هذه المثالية  لكي تصبح مقنعة  تقترب من الواقعية فالسيد إبراهيم له نزوات وشهوات  فهو غير متقيد بتعليم الدين حرفيا, 

 

 

 

 

السيد إبراهيم  يملك  القدرة   في بناء ومد جسور  العلاقات  مع الشخصيات والتدرج في  طرح الأفكار الفلسفية بهذه التركيبة المتكاملة  كان السيد إبراهيم  مقنعا لي كقارء  ولموسى كطرف من أطراف العمل  . يا موسى بالابتسامة تستطيع أن تغير الكثير والابتسامة هي التي تجعلك سعيد وتملكك سلاح قوي لا يقاوم .

يا موسى الجمال من حولنا فثمة تولي تجد الجمال إما في الطبيعة أو الروح أو التناسق والتناغم الهرمنية مع الكون  .

وفي روح العطاء فما تمنحه يبقى للأبد وما تمنعه تفقده للأبد ودع قلبك الطائر يحلق ويتحرر من قفص الجسد ويحيم ليلتقط المعاني والأسرار والكشوف .يا موسى  المساجد تفوح برائحة الأجساد المحلقة في السمو هناك  نشعر بذواتنا وذوات الآخرين نتحول لذرة من ذرات الكون تتوحد وتتلألأ   في قبة السماء وتدور مع الأرض  .

والعمل مرصعا موشح  بالرمزية فما  الأسماء الثلاثة  موسى الحامل للصفات العرق اليهودي  وإبراهيم الأب  وابنه  محمد الوارث للقرآن  والبقالة  التي قد تشير  في ظني  الأرض المقدسة فلسطين والت لم تذكر لا من قريب ولا من بعيد

 رمزية  بيت اليهودي شحيح الإنارة  مظلم وشبابيكه مغلقة وستائره الغامقة ورائحة  أثاثه البالي  التي تشبه السجاد القديم وبمجرد أن آل  لموسى  أعلن خروجه  من تحت عباءة أبيه  على الفور  قام ببيع الكتب وفتح الشبابيك للنور وطلى المنزل بطلاء جديد وفاجأ أمه بأنه لا ينتمي لهذا البيت ثم قام بالسفر مع السيد إبراهيم لإسطنبول وكيف كانت شبابيك السيارة مشرعة للهواء  طوال الطريق  غريبة هذا الرمز الشباك والذي أن أقفل يظلم كل ما في الداخل وإن فتحت على مصراعيها دخل النور والهواء النقي فيتغلغل في كل شيء , وأخيرا نصل  لرائحة الديانات  النفاذة  التي تعبق  فالبخور والشموع  بالكنائس والأجساد المتعبدة  بالمساجد  تثير أدخنة سؤال  هل التسامح بين الأديان ممكن  ؟ سؤال يبقى مفتوح بحجم ما بين  دفتي كتاب التاريخ

 

 

Read Full Post »

ليالي زمان

ليالي زمان

 

يذكرني دوما صوت الشاعر الشعبي  عبد الرحمن الأبنودي وهو يلقي قصائده النابعة من منجم الأصالة  والمتكأة على الموروث الشفوي,  بالعم جابر وربابته  التي يطوف بها  قرى صعيد مصر ,    مغنيا في مقاهيها سيرة أبو زيد الهلالي,  وسيرة عنترة .

 فأسائل نفسي :لماذا انقرضت مهنة الحكواتية ! وكيف دُفنت معهم حكايتهم  النابضة بالحياة ! .

 كانوا يقتعدون في صدر المقاهي  منشدين أشعاراً ملأها الفروسية والمبارزة,  والعشق والتضحية, والألم والأمل , بها يستحضرون أساطير  وأرواح  أبطالهم, ولا يملك المنصت لهم سوى  التحليق بعيدا  في سماء الخيال,  فيطوف القرى ومضارب البدو والحقول والسهول والقصور والقبور ..

 

واليوم في  سهراتنا الصامتة  كل منا يحتضن حاسبه الشخصي أو هاتفه الخلوي  ,

 ويبقى أسيراً للشبكة العنكبوتية. ,  ومقاهينا  تستغرب  من طاولة صاخبة بالضحك ومترعة بروح الدعابة .

 ولكن في هذه  الليالي   سهرت مع حكواتي أعاد لي ذاك   الزمن  الذي سمعت عنه كثيراً  حتى يخيل لي أني أعيش فيه , هذا الحكواتي الرائع  هو كتاب ظريف في بابه, فقد  أهتم كتاب (حكايات مقهى  الباب العالي ) بجمع الحكايات التي كانت  تدور في المقاهي العثمانية  ملتقطا لنا صورة  بانورامية واسعة  للمجتمع العثماني,  فتتلمس السمات العامة  للمجتمع التركي ,  فيها مراسم الزواج  , وفيها  لهو المترفين, وفيها فطنة كبار السن وردودهم الحكيمة , وتحضر حلقات المدارس  ,  وطواف الدراويش بالخلوات والزوايا , وتشاهد المنجمون وحيلهم ,   وتكتشف العلاقة بين الرجل  والمرأة ,  وتذهب للحمام العام  , وتتناقل حديث الجارات ,  وفيها أحاديث البنات لأمهاتهم, وتشم عبير  الأكلات والمشروبات والحلوى التركية  , وتبهر عينيك بجمال القصور والنقش والقباب وفنون العمارة . فيها تكتشف حجم التداخل الكبير بين المجتمعات الإسلامية,  حتى أنك لا تستطيع تتبع منبع عادة ما  أهي عربية أم هندية أم تركية أم فارسية أم أمازيغية بربرية إلخ .

 إن سرقان أوزبورون   بحكياته الماتعة جعلني  استحضر  أشلاء حكايات الأتراك الذين رفضوا العودة إلى   قراهم وآثروا البقاء بعد  سقوط الدولة العثمانية العظيمة , إمانا منهم  بأن الإسلام هو وطنهم  الخالد .  

 

 

 

 

 

قالت لأكحلها ..

 

لا تعط روحاً لهم العشق كارثة

والدنيا تعرف أن كارثة العشق روح

لا تطلب مكسباً من هم الحب والحبيب

من يطلب مكسباً , يفقد الحب

كل حاجب طعنة خنجر لروح

كل خصلة شعر أسود أفعى سامة

يبدو وجهها أجمل من القمر

النظرة الجميلة واقعة جميلة على الرأس

أعرف من وقع بعذاب الحب من أول لحظة

كل من يعشق , يتأوه ويئن

لا تذكر عيون الإنسان , والسود منها

لا تعتقد أنك بطل , و تغوص , فبعضها يشرب دماً

إذا قال فضولي الحسناوات و فيات

لا تنخدعوا , فهذا كلام شاعر , كذب

يا سادتي , الحاجب بالعربية , و الإيبرو في الفارسية كثير ما تشبهان في شعر الديوان بالقوس , أو الهلال , أو قوس القزح , أو الخنجر والطغراء , أو بالراء والنون من الأبجدية القديمة , ويعبر من خلال هذا الوصف عن جاذبية الحبيب .

ولكن هذا خطأ فادح , لأنه لا علاقة لذاك المنحنى بقوس الكمان , ولا للفاتح اللون العريض بنصل السيف , وكل هذا في الحقيقة شطارة أصحاب القلم .

وذروة عرض هذه المهارة بالتأكيد تصادف اللحظة التي يرى فيها العريس وجه العروس للمرة الأولى : يوم العرس … وقصتنا تقع في يوم كهذا

كان يوم الخميس عثماني , تعد مراسم صمدية العروس والعريس حيث سيرى أحدهما الآخر لأول مرة , ومن أجل هذا الاحتفال  و ضعت أريكة مرتفعة تذكر بالعرش في غرفة كبيرة من بيت العريس , بعد قليل يأتي الضيوف لرؤية العروس التي ستجلس على هذه الأريكة . بعد ذلك , ستستقبل العروس و حماتها العريس عند الباب , وتمسك الحماة العروس ذراع العريس , وتخرجهما قليلاً , ويستفيد العريس من هذه الفرصة ويعلق للعروس هدية رؤية وجهها .

وقبل هذا كله دُعيت المزينة إلى البيت من أجل تجميل العروس لأنها المرة الأولى التي سيرى فيها العريس وجه عروسه . وبعد تجميل الشعر والشفتين والخدين جاء دور الحاجبين . بداية أخذت الشعر الزائد بالملقط , ثم صبغت حاجبي العروس ورفّتعهما , وبدأت تعطيهما شكلاً بواسطة قلم خاص . وفي أثناء هذا العمل , كانت تقرع الدفوف , وتغني الأغنيات , ويُشرب الشراب , و ترقص الصبايا . حدث ما

 

 

 

 

 

حدث في أثناء ذلك الرقص . ارتدت فتاة قميصها المزهر بالأحمر , ومن دون أن تتذرع بضيق المكان الذي ترقص فيه , تعرقلت قدمها بشيء . ترنحت بداية , و حاولت  ضبط نفسها , حتى أنها خطت خطوة أو خطوتين . ولكن تينّك الخطوتين لم تفيدا إلا بارتشاق شراب المدعوات عليها , و أخيراً سقطت فوق المرأة الممسكة بالقلم .  وتحت تأثير الصدمة تحول رأس القلم الحاد بيد المرأة إلى خنجر , و انغرز بعين العروس , انطلقت الولولة في بيت العرس . وهرعوا وجلبوا طبيباً من المدينة , ولكن المحاولات كلها لم تعطِ نتيجة , وصارت العروس عوراء .

عندما تفتح العروس المسكينة عينيها الأصح عينها في بيت أبيها كانت تتحسر على فقدانها العريس أكثر من كل شيء . لأن للعين مثيلاً , ولكن ليس للعريس مثيل .

منذ ذلك اليوم صار اسم تلك الفتاة العروس العوراء .

أما وضع المرأة الممسكة بالقلم و العاطلة عن العمل , فقد كان مختلفاً , فقد أطلقوا عليها صفة أطول : ” القائلة لأكحلها , فأعمتها ” .

و الآن يقول الإنسان لنفسه لو أحييت تلك العادات , ورقصنا في أعراس حبيباتنا اللواتي تركننا , وبثثها في هذه المقولة الحياة من جديد .

  

 

Read Full Post »

لقد أهداني الصديق  العزيز  المرضي  فانوس رمضان ,  لذا  سأعلقه في مشكاة مدونتي .

 

 

 

ناشر الموضوع : مشتاق

الألوان في مخيلة المعري وتأثيرها في عبقريته – محمد قرانيا *

 

ارتبط العمى بالإبداع لدى عددٍ من أصحاب الفكر والأدب والشعر عبر تاريخنا العربي القديم والحديث، ففي القديم يذكر لنا تاريخ الأدب إضافةً إلى المعري، بشارَ بنَ بردٍ في العصر العباسي الأول، والحصري في القرن الخامس الهجري، وطه حسين وأحمد الزين وعبد الله البردوني في العصر الحديث.

 

وقد اهتمت كتب الأدب العربي القديمة ب- (المكافيف). فعلى سبيل المثال لا الحصر يقول ابن أيبك الصفدي في كتابه (نكت الهميان) ص 2: “لما وقفتُ على كتاب المعارف لابن قتيبة رحمه الله تعالى، وجدته قد ساق في آخره فصلاً في المكافيف. فعدَّ فيهم، أبا قحافة، وهو والد أبي بكرٍ الصديق، وكعب بن مالك الأنصاري، وأبا سفيان بن حرب، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وحسان ابن ثابت الأنصاري، وعقيل بن أبي طالب، وأبا الساعدي وقتادة بن دعامة، والمغيرة بن مقسم، وأبا بكرٍ بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد بن أبي بكرٍ الصديق، وعُبيد الله بن أبي أوفى، وعلي بن زيدٍ من ولد عبد الله بن جدعان، وأبي هلال الراسبي، وأبا يحيى بن محرز الضبي، وابن عباس رضي الله عنه”.

 

وعاهة فَقْدِ البصر محنة يُمتَحن بها الإنسانُ، الذي ما يفتأ يبتدع السبل والوسائل لقهرها، وتجاوز الليل الدامس الذي يغشي عالمه، وذلك بتدريب الحواس الأخرى على ما يمكن أن يعوّض الحاسة المفقودة، ويتفوق بها على المبصرين، فتنمو الملكات، وترهف المواهب والقدرات، بما يؤدي إلى التميّز والإبداع “أو الاختراع، فيما يقيم (الأعمى) جهده عليه والتفرّد أو التميّز فيما يظهر على الناس به، وبدرْبة ذكائه، وقوة ذاكرته، ودقّة ملاحظاته، وبراعة استنباطاته، ووفرة مخزونه ومحفوظه، مما يُخلّد ذكرَه، ويُعظّم أمرَه، ويجعلُ منه في دنيا الشهرة بؤرة إشعاعٍ ومضاء، ومنبراً لا تلجمه الأهواء، وصدق ابن عباس فيما أنشد له الجاحظ(1):

 

إنْ يأخذِ اللهُ من عينيّ نورَهما *** ففي لساني وسمعي منهما نورُ

 

قلبي ذكيّ، وعقلي غيرُ ذي دَغَلٍ *** وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُ(2)

 

إن مقولة (ففي لساني وسمعي منهما نورُ) تعيدنا إلى (العين)، مصدرِ الرؤية، ووسيلةِ تغذيةِ العقل والفكر بالمرئيات، والتي ينعم بها المبصر، إذْ تتحوّل عند فاقد البصر إلى ذكاء إنساني، يقوم بدوره التخييلي في الوجدان، فيعيد تشكيل الأشياء المدركة فوق مسرح الطبيعة، ويحركها بشفافيةٍ إبداعيةٍ لتحقيق أهدافٍ إنسانية.

 

والخيال يجنح إلى ما يسمى (الفن الجميل) أو (الفن الخالص)، كأن يتخيل الإنسان عالماً جديداً لا يعهده البشر، وقد انطلق أبو العلاء المعري إلى عوالم سحرية في رسالة الغفران، تُغذّي (عين الجسد) و(عين الروح)، وتدفع الخيال للحركة والمتعة والبهجة، وتحقّق نفعي السحر والفتنة الخالصة، وهذه القيمة لا تُحسب على أساس المنفعة التي تجنيها، وإنما على أساس ما تنتجه من رضى حسيّ وتخيليّ مباشر، ومن حيث كونُها ألواناً وأشكالاً وأصوات وإيحاءات.

 

وهذه (الألوان والأشكال والأصوات والإيحاءات) عمل المعري الفنان على إظهارها، وقد فتح بها أعيننا وأسماعنا وأخيلتنا على عالمه الإبداعي، بحيث أصبح لما ترك لنا من آثار شعرية ونثرية معانٍ حقيقية، أكثر من تلك البيئة الواقعية التي عاش فيها، ونتابع –نحن- العيش فيها ونتنسم هواءها. وما الليل والنهار والظلمة والنور، التي ترددت كثيراً في آثار المعري، إلا رموزٌ لها دلالات، وتمتاز بأنها أكثر نقاءً ودقةً وتركيزاً من الأشياء التي نراها بالعين الخبيرة بما ألفت النظر إليه واعتادته.

 

فأشخاص رسالة الغفران أكثر إلحاحاً ووضوحاً في وجوههم من هؤلاء الأشخاص الذين نقابلهم في اتصالاتنا العاجلة.

 

لقد اهتدى (برغسون) إلى شيءٍ من ذلك حين قال: “إن بصيرة الشاعر أدقُّ في كشفها عن الحقائق من تحليل الميتافيزيقي. وهذا ما عناه (كروتشي) حين أصرَّ على أن كل وظيفةِ الفن تنحصر في كلمة (بصيرة)، وقد يملأ فيلسوف مجلداً بحديثه عن الخلود، غير أن بيتاً من قصيدة من أشعار”(3) المعري قد يضعنا في حضرة الشيء الجميل مباشرة. نظراً، لما للضوء واللون من معانٍ حية، وما تخلقه من قوى تصويرية في مخيلة الفرد وخواطره. كما أن اللفظ الأدبي يضفي على معاني الضوء واللون “غموضاً محبباً شفيفاً، وسحراً خلاباً. إذْ يموّه المعاني في رمزيةٍ لطيفةٍ إن احتاج الهدف إلى تمويه”(4).

 

والشاعر الأعمى الذي كُفَّ بصره قبل الخامسة يصعب عليه استرجاع مدلولات الألوان باستثناء أصحاب المخيّلة المتسعة ممن يتمتعون بمدارك متفوقه، وحساسيات مرهفة.

 

وأبو العلاء واحد من هؤلاء المبدعين، بل إنه الفريد في إبداعه وذكائه “قد اعتلّ في سنته الرابعة علّة الجدري، فما أبلّ منها إلاّ بعد أن شوّهت وجهه بندوبٍ لا بُرءَ منها، وذهبت ببصره مسدلةً بينه وبين الدنيا حجاباً كثيفاً، حالك السواد، فما انجاب حتى آخر العمر”(5).

 

إن المدقق في الألوان التي ترد في أشعار المكفوفين سيجد أن لهم “مفاهيم عقلية، ورموزاً تعبيرية عن المعطيات البصرية يكيّفونها قدر استطاعتهم مع المعاني والمفاهيم عند المبصرين، لتكون متفقةً ومنسجمةً معهم في التعبير، كيما تنظّم تفكير المكفوف في الأمور البصرية وتوضّحه، وتجعله مشاركاً اجتماعياً مندمجاً مع بيئته من المبصرين(6).

 

واللون في ذاكرة المعري ليس واضحاً جلياً من حيث الصفاء، كلون الحمرة أو الخضرة أو الزرقة، وسوى ذلك باستثناء الأبيض والأسود. وكان كل ما بقي له من ذكريات عهده بنور العين لونَ الثوب الأحمر الذي ألبسوه إياه في علّته، وقد أقرّ بذلك إذْ قال:

 

“لا أعرف من الألوان إلاّ الأحمر، لأني أُلبستُ في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر، لا أعقل غير ذلك”(7).

 

والمتتبع لألفاظ اللون في شعره يلمس صدق المعري، لأن ما تسرب من الألوان في مخيلته كان باهتاً، كما في قوله ينتقد الحكام:

 

الليالي مغيراتُ السجايا *** كم جعلن الزيفان شربَ عيوف

 

قدْ غدا القومُ للنضار فنالو *** ه وبتنا ومن لنا بالزيوف

 

أولا يُبصرُ الفتى الذهبَ الأحمرَ *** تُحذى به نعالُ السيوف؟!

 

فالأحمر لم يأت مقصوداً لذاته، وإنما وُصف به الذهب، والعرب قالوا الذهب الإبريز، كما أن اللون الأحمر لم يأتِ إلاّ بعد لفظ الليالي الموحي بالسواد، وأن للنضار لوناً تقدّم على الذهب الأحمر.

 

وفي تفسير (جار الله الزمخشري) في (الكشاف) لآيتي سورة المرسلات:

 

“إنها ترمي بشررٍ كالقصر، كأنه جمالاتٌ صُفر” ذكرَ بيت أبي العلاء في (سقط الزند)

 

حمراء ساطعة الذوائب في الدجى *** ترمي بكل شرارة كطراف

 

ثم عقّب عليه عائباً عليه مبالغته وادّعاءه بما نصه:

 

“شبهها بالطراف، وهو بيت الأدم، في العِظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجّحه بما سوّل له من توهّم الزيادة، جاء في صدر بيته بقوله: (حمراء) توطئةً لها، ومناداة عليها، وتنبيهاً للسامعين على مكانها، ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمَى الدارين، عن قوله عزّ وجلّ: “كأنه جمالات صفر” فإنه بمنزلة قوله: كبيتٍ أحمرَ، وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيهاً، من جهتين: من جهة العِظَم، ومن جهة الطول في الهواء وفي التشبيه بالجمالات، وهي الحبال الضخمة، تشبيه من ثلاث جهات، من جهة العِظَم، والطول، والصُّفرة.

 

“فأبعدَ الله إغرابه في طرافه، وما نفخ به شدقيه من استطرافه”

 

وقد علّقت الدكتورة بنت الشاطئ على شرح الزمخشري مستغربة:

 

“هل مثل ذاك التأويل المعتسف المشتطّ لبيتِ أبي العلاء، مما يمكن أن يخطر على بال قارئ منصفٍ، تحرّر من سيطرة فكرةٍ سبقت إليه بالاتهام؟!”(8).

 

ومما تجدر ملاحظته في البيت المذكور أن لفظ (حمراء) لكي يظهر سطوعه جعل ذيوله تسطع في الدجى الأسود، ومن ثم ختم البيت بالطراف وهو الأدم الأحمر… وربما كان هذا التلوين يعبّر عن الانفعال العميق الذي تملّك المعري وهو يصوغ صورته الشعرية التي تمتد بأسبابٍ إلى الصحراء العربية. هذه الصحراء التي كان يذهب إليها أترابه لتستقيم ألسنتُهم، وتَبينَ فصاحتهم، ولما حُرم منها عمل على اصطناعها، تعويضاً أجمع عليه دارسوه، ومنهم الدكتورة بنت الشاطئ التي لم تشك “في أن محنته هي التي اقترحت عليه عملية التعويض عن محن الدنيا، في رؤيا عالمه الآخر: فليس يكفيه أن يصير الأعشى أحور، والأعمى بصيراً، والهرم شاباً، وإنّما يعوّض الذي امتُحن في الدنيا بعاهة أو بلوى، تعويضاً لا يقترح مثله سوى ضريرٍ مبتلى محروم: فأحَدُّ أهل جنته (في رسالة الغفران) هم الذين حُرموا نعمة البصر في الدنيا، وأجملهم عيوناً (عوران قيس). وأطيب نسائها نشراً امرأة كانت في الدنيا تُدعى (حمدونة الحلبية) طلّقها زوجها، بائع السقط من المتاع، لرائحةٍ كرهها في فمها، وأنصعهن بياضاً أَمَةٌ تُدعى (توفيق السوداء) كانت تخدم في دار العلم ببغداد”(9).

 

ثم لننظر كيف أن السواد تضادّ مع البياض في نهاية النص، ليظهر ويبين حسب القاعدة المعروفة، والضدّ يُظهر حسنه الضدّ، وهذا طبيعي أن يكون الأسود والأبيض متقابلين في رؤية الأعمى، لكن الصورة التي سبقتها حين سطع الأحمر في الأسود، هي من غير المألوف، ونجده يكرّ‍رها في أكثر من موضع كما في قوله:

 

ألفنا بلاد الشام إلفَ ولادةٍ *** نُلاقي بها سودَ الخطوب وحمرَها

 

إن ألفاظ السواد والبياض كثيرة في شعره، ولعلنا نستشف منها أن اللون الأسود يوحي بدلالات العتمة والظلمة والظلم والتشاؤم. وهذا ما يمكن أن يقف الدارس عنده لأن التشاؤم كان أساس فلسفة المعري التي يبحث فيها عن علل الوجود ونتائجه، وامتثاله لعلوم الطبيعة، وما وراء الطبيعة، والأخلاق، فشرحها وأضاف عليها.

 

“لم يكن المعري مبتدعاً في ميدان الفلسفة، بل متبعاً لمن سبقوه، وإن تميّزَ بإضافاته وجديده. والمتنبي أستاذ أبي العلاء، قد عالج قضايا الفلسفة من قبله، وتحدث عن الجبر والخير والشر، وفساد النظم السياسية والاجتماعية، ودعا إلى تغيير الأحوال القائمة، بل أبدى أن الحياة كلها شرٌّ، حتى بالغ بعض كبار الباحثين فحسبه من المتشائمين أو من مؤسسي الفلسفة المتشائمة في الأدب العربي”(10)

 

ولعل من بوادر تشاؤم المعري علّة العمى، التي كان يكابر فيها، ويراها نعمةً، لا يحاول تجاوزها. وقد ذكر الثعالبي في يتيمة الدهر (1/9) أن الشاعر المصيصي قال: “لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب. رأيت أعمى شاعراً ظريفاً يلعب الشطرنج والنرد، ويدخل في كل فنٍّ من الجد والهزل، يُكنّى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمدُ الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي، وأحسنَ بي، إذْ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء.

 

ويروي ابن العديم عن والده أنه سمع عن مشايخ أهل حلب، في معرض الكلام على ذاكرة المعري العجيبة وذكائه الخارق، أن المعري “مرَّ وهو راكب بشجرةٍ في طريقه إلى بغداد، فقال له من يقود ناقته: “طأطئ رأسك” ففعل، حتى إذا آبَ من الرحلة بعد عام مضى وبعض عام، ومرّ بذلك الموضع، طأطأ رأسه من تلقاء نفسه، فسُئل في ذلك فأجاب: “ها هنا شجرة” قالوا: “ما ها هنا شيء” ثم فحصوا الموضع فإذا أصل شجرةٍ مجتثة”(11).

 

إن عبارة “طأطئ رأسك” ثقيلة الوقع على حسّ الشاعر المرهف، وهي ذات مدلول نفسي توحي بالخنوع والخضوع والمذلة والمهانة، وأنّى للشاب المتحفّز المتوثب أن يتقبّلها إلا بروح التشاؤم وردّة الفعل الظاهرة والباطنة. ثم أليس من معناها البعيد شدّة السواد وشدّة القتامة، وشدّة النقمة.

 

وتقول الدكتورة بنت الشاطئ: “طأطئ رأسك، ما أشقّها من كلمة على الحسّ المرهف للضرير الذي يخرج لأول مرةٍ إلى خضم العالم الواسع، وقد كان من قبلُ ألفَ الحركة في حدود عالمه الصغير الضيّق، ما بين المعرة وحلب. مهتدياً بحسّه الذكي وبصيرته الثاقبة، ومترنماً بمثل قوله في الدهر الأول(12):

 

وأغدو ولو أن الصباحَ صوارمٌ *** وأسري ولو أن الظلام جحافل

 

وهذه شجرة فحسب على الطريق، أنى له أن يتقي الاصطدام بها إلاّ أن يقول له من يقوده، منبهاً ومرشداً: طأطئ رأسك؟!

 

ومما زاد من تشاؤم أبي العلاء أن بغداد لم تحسن استقباله، إذ صادف يوم وصوله وفاة الشريف الطاهر، والد الشريفين الرضي والمرتضى، فقصد للتعزية، والناس مجتمعون، والمجلس غاصٌّ بأهله، فتخطى بعض الناس، ويروي ابن العديم في “الإنصاف والتحري” ص 543 أن أحدهم انزعج فقال له: “إلى أين يا كلب؟!” قال أبو العلاء: “الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً” ثم جلس في أخريات المجلس، إلى أن قام الشعراء وأنشدوا مراثيَهم، فوقف أبو العلاء وأنشد مرتجلاً قصيدته في رثاء الفقيد:

 

أودى فليت الحادثاتِ كفاف

 

فلما سمعه وَلَدا الشريف الطاهر قاما إليه ورفعا مجلسه، وقالا له: لعلك أبو العلاء المعري؟ قال: نعم. فأكرماه واحترماه

 

وهكذا كانت البداية:” مأتمٌ يستقبله يوم وصوله وكلبٌ أولُ لقب يسمعه في بغداد

 

“وكأن الدنيا مترصدةٌ مقدمه لتردّه إلى موضعه على الأرض، بعدما طال مزعمه أن النجم دونه”

 

وفي غربته ببغداد أوى أبو العلاء إلى نفسه محزوناً يرنو بوجدانه عبر الظلام الدامس المتكاثف إلى برقٍ لاح من ديار الشام، فهاج مواجعه. وأخذ يصغي في صمت الليل، وفراغ الوحدة إلى صدىً ملء سمعه، من تحنان الإبل يعذبه. كانت تحن إلى الديار، رغم حرصه على ستر وجوهها كي لا تلمح إيماض البرق المتعالي من ناحية الشام.. وإنه مع ذلك ليعجب لهذه البُهم: هل زارها طيفُ خيالٍ، كما زاره طيفُ خيالٍ فهاجه؟.. ومياهاً أخرى وردتها من قبلُ بالفلاة، وهيهات لمثله أن ينسى، وإنها لذاهلة عما تلهب بتحنانها من وجدٍ في صدره، وهيهات لمثله أن يذهل أو يسلو”(13).

 

طرِبْنَ لضوءِ البارق المتعالي *** ببغداد وهناً مالهن ومالي؟

 

سمت نحوه الأبصار حتى كأنها *** بناريه من هنّا وثمَّ صوالي

 

إذا لاح إيماضٌ سترتُ وجوهها *** كأنيَ عمروٌ والمطي سعالي

 

وكم همَّ نضوٌ أن يطير مع الصبا *** إلى الشام لولا حبسه بعقال

 

لقد زارني طيفُ الخيال فهاجني *** فهل زار هذي الإبلَ طيفُ خيال

 

فيا برق ليس الكرخُ داري وإنما *** رماني إليه الدهر منذ ليالِ

 

فهل فيك من ماء المعرة قطرةٌ *** تغيث بها ظمآنَ ليس بسالِ

 

ولعل قارئ شعر أبي العلاء يلمس أثر الحزن الذي يتشح صاحبه بالسواد، فالسواد رمز للموت، وهو يبرز في أثر الراحلين من الأهل والأحبة والصالحين، ويجعل صاحبه يصرخ في شجن وأسى:

 

“يا قلب. لعل أسْوَدك زَنجيٌ من ولد حام…..” (الفصول والغايات) والسواد رمز للحياة التي تغيم فيها المرئيات فيعيش فيها بليلٍ طويل فيقول:

 

لعمري لقد وَكَلَ الظاعنون *** بقلبيَ نجماً بطيءَ الغروبِ

 

أقول وقد طال ليلي عليَّ *** أما لشبابِ الدجى من مشيب؟

 

إن ليل المعري الأسود المدلهم بدأ من سنته الرابعة، فطال وطال، وقد خُيّل إليه حيناً في ميعة الصبا وأشر الشباب، أنه يستطيع أن ينسخ ذلك الليل بنهارٍ متألقِ الضياء، وأن يجعل سُراهُ في داجي الظلمة تحليقاً مع النجوم في مسبح الفلك.

 

تقول الدكتورة بنت الشاطئ عن حال المعري بعد عودته من بغداد، وقد قرر أن يرسخ الظلمة ويحتجّ على الظلم، وذلك بعزلته الاجتماعية، إضافة إلى عزلته النفسية، فيصير رهين المحبسين، تقول:

 

“وأوحش ليلُه، وتتابعت أماليه ورسائلُه وقصائدُه، من وراء الأسوار العازلة، والظلماتِ المتراكمة، تضيءُ لنا العالم الفكري والوجداني لشاعرٍ إنسان، كُشف له الغطاء عن نفسه، واستروح إلى الإفضاء بمطويّ همومه ومواجعه، والكشف عن تأملاته ورؤاه”(14).

 

وقد يرمز إلى الموت وما بعد الموت بالظلمة، فسوادٌ في الدارين الدنيا والآخرة:

 

وإظلام عينٍ بعدَه ظلمةُ الثَرى *** فقل في ظلامٍ زيد فوق ظلام

 

ومن قبلُ رمز للصبا والشباب بالسواد. وها هو ذا في الشيخوخة يستاء منه فيقول:

 

أيا مفرقي هلا ابيضضتَ على المدى *** فما سرّني أن بتَّ أسودَ حالكاً

 

قبيحٌ بِفَوْد الشيخ تشبيّهُ لونه *** بفَوْد الفتى والله يعلم ذلكا

 

وفي الشيخوخة والعجز يكون السواد رمزاً لهذه الحياة المضنية:

 

ولي أملٌ قد شبت وهو مضاجعي *** وساورني قبل السواد وماهَمّا

 

ولن يكون عزاء المضنّى المعذّب سوى انطفاء النور الذي لم يعد يحبه، وصار يستعذب الموت:

 

إذا طُفئت في الثرى أعينٌ *** فقد أمِنَتْ من عمى أو رمد

 

والسواد رمز العمى، وجميع الناس مثله في هذه العاهة يسيرون فيتخبطون ويتصادمون:

 

وبَصيرُ الأقوام مثليَ أعمى *** فهلموا في حِندسٍ نتصادم

 

وإذا ذكر ظلم عمال السلطان له وجورهم عليه فإنه يخاطب ناقته التي نقلته إلى بغداد شاكياً لها، ويربط الظلم والعدل بسواد الليل وبياض الصبح:

 

إذا رأيتِ سوادُ الليل فانصلتي *** وإن رأيتِ بياض الصبح فانصاعي

 

ونظراً لسيادة الظلمة في عينيه، فإنه يطلق (لفظ الليل) على عموم اليوم، الذي كثر في شعره كثرةً لافتةً للنظر:

 

فيا برقُ ليس الكرخُ داري وإنما *** رماني إليه الدهر منذ ليالِ

 

وحين يرثي أباه، يأخذ على الليالي حكمها الجائرَ وهو يقصد الأيام أيضاً:

 

أبي حكمتْ فيه الليالي ولم تزل *** رماح المنايا قادرات على الطعن

 

وحين يذكر أنه خرج من بغداد مكرهاً، يحمّل ذلك لليالي ويقصد الأيام:

 

أظن الليالي وهي خونٌ غوادرُ *** بِرَدِّي إلى بغدادَ ضيّقةَ الذرع

 

وحين يكابر على نفسه كي يخفي ضيقه، يعلن أنه يودّ دوام الليل، ويقصد دوام الأيام التي ينضاف سوادها إلى سواد القلب والبصر:

 

يودُّ أنَّ ظلام الليل دام له *** وزيد فيه سوادُ القلبِ والبصرِ

 

وحين يصير إلى الشيخوخة ويرى فمه بلا أسنان، يلقي باللائمة على الليالي ويقصد الأيام:

 

فمي أخذت منه الليالي وإنني *** لأشربُ منه في إناء مثلَّم

 

ولم يكن اللونان الأبيض والأسود في بصيرته سوى مكونات فكرته رسمها رسماً “يمسّ عواطفه وخياله، حتى ينطلق لسانه بوصف هذا الشيء، نقلاً عما تركته صورته في خياله وقلبه، من الشكل المفضّل والتأثير الشديد” لكن الدكتور طه حسين يرى أن المعري في وصفه للمبصرات، ومنها الألوان يقلّد ما سمعه من المبصرين، فلم يبلغ شأوهم “في هذا الفن، فيحتال في أن يعوّض شعره من هذا القصور ما يزيّنُ لفظَه، ويجمّلُ معناه”(15)

 

إن للبياض والسواد قيمةً تُعدّ من أهم القيم الفكرية والفنية في الأدب العربي نلمح فيها بصورةٍ جليةٍ المقابلة بين الأبيض والأسود والليل والنهار والنور والظلام وكل ما يمكن أن يتصل بهما من معان ترمز للخير والشر والعدل والظلم، فالظلام رمز الضيق النفسي، والشر، والظلم، والباطل، والعتمةِ. والنورُ رمزُ الحب والخير والعدل والنهار والضياء. وهما في تقابلٍ دائم في النفس، وصراع مرير في الحياة لا ينتهي، وقد عرفتها جميع الآداب في الأمم القديمة والحديثة، وهذه ظاهرةٌ في شعر المعري ثريةٌ خصبةٌ وردت صريحةً تارة ورمزية تارةً أخرى، تتصل بكل طرف من أطرافها، وهي تمتدّ من صورتها المجملة المقتضبة المتمثّلة بالأبيض والأسود، أو بالليل والنهار، أو بالحق والضلال، وهذه الثنائيات في صراعٍ مستمرٍ إلى صورها التفصيلية التي يضفي عليها في كل مرةٍ معنى جديداً.

 

إن رموز البياض والسواد المتغلغلة في شعره، كانت نتيجة طبيعية لحالته البصرية لكن البصيرة صقلتها وعالجتها لتقدّمها في صورٍ اختلفت اختلافاً واضحاً عن صور المبصرين.

 

ولنقف عند قصيدته النونية نتسقّط رؤية البصيرة لهذه الألوان التي خرجت من معطف الأبيض والأسود لتلبس غلاله الشاعرية والشفافية والجمال النفسي، غير المرئي:

 

علّلاني فإن بيضَ الأماني *** فَنِيتْ والظلامُ ليس بفاني

 

رُبَّ ليلٍ كأنه الصبح في الحسن *** وإن كان أسودَ الطيلسان

 

قد ركضنا فيه إلى اللهو لمّا *** وقف النجمُ وِقفة الحيران

 

فكأني ما قلتُ والليل طفل *** وشباب الظلماء في العنفوان:

 

ليلتي هذه عروسٌ من الزنج *** عليها قلائد من جمان

 

وكأن الهلال يهوى الثريا *** فهما للوداع معتنقان

 

وسهيل كوجنة الحب في اللون، *** وقلبِ المحب في الخفقان

 

مستبدٌّ كأنه الفارس المُعلَم *** يبدو معارضَ الفرسان

 

يُسرعُ اللمحَ في احمرارٍ، كما تُسرع *** في اللمح مقلةُ الغضبان

 

ضرَّجته دماً سيوفُ الأعادي، *** فبكت رحمةً له الشِّعريان

 

ثم شاب الدجى، وخاف من الهجر، *** فغطّى الشيبَ بالزعفران

 

ونضا فجرُه على نسره الواقع *** سيفاً فهمّ بالطيران

 

هذه صورة من أروع مشاهد الطبيعة، رسمتها بصيرة المعرى الفنان، بألوان روحه التي كشفت عن إحساسٍ دقيق، مرهف الشعور مستغرق النفس في تأملاته “واعي الفكر في تصوراته، واسعِ الأفق في مطالعاته. نفّاذٍ إلى دقائق الأشياء وأسرارها، يستطلع مكنونات الطبائع إلى عمق أغوارها، متتبعٍ كل حركةٍ وخلجةٍ. لم يفتْهُ في هذه اللوحة الشعرية سريعُ نبضٍ، ولم يَخْفَ عنه خاطفُ ومْضٍ، ولم تندَّ عنه لمحةٌ تُلاحقها لمعة، أو يختلط منظرٌ في هذا الموكب الساحر بمنظرٍ، أو يطغى لونٌ على آخر في كل مظهر”.

 

“في هذه الصورة نشهد في البيت الثاني منها المقابلة الصادقةَ بين بياضِ الليلِ وسواده. إذ يضفي فيها الشاعر من إحساس الشباب الطافر، الجاري وراء الجمال الساحر، ونعيم الحياة الغامر، واللاهي عن مآسيها وأحزانها، وهمومها وأشجانها بهدوئه الناعم لوناً مبهجاً غير ذلك اللون القاتم”

 

ووصفَ الأماني في البيت الأول بالبياض. ليس لأن المعري يعقل هذا اللون، فقد حدثنا أنه لا يعقل من الألوان إلاّ الحمرة، وإنما “لأنه رأى الناس يصفون الجميل بهذا اللون، ويستبشرونه فيما لهم من النظم والنثر والحديث، وهو بعدُ يريد أن يصف أمانَيه بالحسن، وقد حفظ أن الظلامَ لونُه السوادُ الحالكُ إشارة إلى اليأس، وانقطاع الرجاء من لذات الحياة، وسأل صاحبيه أن يعللاه بما عندهما من خيرٍ ليتلهى عن احتمال هذه الحياة المفعمة باليأس والقنوط”(16).

 

ثم يشبه في البيت الثاني الليل بالصبح لا في شيءٍ مادي بل فيما يمنع النفوس به من السرور والطمأنينة، ولفّعه بطيلسان أسودَ، كثيراً ما لفّعه به الناس قبله.

 

وثمة مقابلةٌ أخرى بين الحركة والسكون: حركةِ هذا الشباب الذي يتسابق إلى مسارح اللهو ركضاً في بهجةٍ ومسرةٍ، ثم سكونِ النجم الواقفِ في وجومٍ وحيرةٍ، والحيرةُ سبيلٌ إلى الأسى والحزن وإلى السكون والوجوم.

 

“ثم ينقلنا معه إلى مقابلة أخرى بين الطفولة في وداعتها القَريرة، وبين الشباب في فنونه الغريرة: طفولةِ القمر وهو في أول الشهر ليدرج إلى تمامه في منتصف الشهر خطوةً خطوة، وقد اشتدت من حوله الظلمة بسواد إهابها، مزهوةً بأول شبابها وما هي فيه من قوةٍ وسطوة.

 

ثم يبدأ في وصف ليلته هذه التي امتلكت مباهجها عليه مشاعَره، وطردت النومَ عن أجفانه، فيشبهها بعروسٍ من الزنج قد أفاض عليها الشباب من غلوائه زيادة في التكوين، وحسناً في التقسيم، بحيث تزهو على أترابها، وقد حلّى جيدها بعقودٍ من اللؤلؤ! يريد بذلك تلك الأضواء المنبعثة من الكواكب هنا وهناك في صفحة السماء. وهنا تبدو براعةُ هذا الشاعر الرسام الفنان في قوله: “عروس من الزنج” ذلك أن هؤلاء القوم شديدو التعلّق بالطرب، حتى ليُضربُ بهم المثل “أطرب من زنجي”.

 

وكما قلنا إنه لم تندّ عنه لمحة، فنحن بعد ذلك أمام مشهدٍ رائعٍ من مشاهد الوداع، بين الهلال الذي أراد به صورة فتى، والثريا التي أراد بها صورة فتاةٍ، وقد اعتنقا عناق الوداع. ذلك أن الثريا لا تمكث مع الهلال حين يهلُّ في أول ليلة إلاّ زمناً قصيراً ثم تغيب، وهم يضربون المثل بهذا اللقاء الخاطف، فيقولون: “ما ألقاه إلاّ عداد الثريا من القمر”.

 

ويصور في البيت الذي يليه كوكب سهيلٍ الذي يُرى مضطرباً لقربه من الأفق، فيشبه اضطرابه بخفقان قلب المحب حين يلقى من يحب، ولا ينسى الشاعر هنا أن يحدّدَ لونَ هذا الكوكب بالتشبيه دون أن يذكر اسم هذا اللون، إلاّ بعد قليلٍ، “كوجنة الحب” بكسر الحاء- أي المحبوب الذي تحمُّر وجنته عند لقاء حبيبته، ومعروفٌ أن هذا الكوكب يضرب لونه إلى الحمرة(17).

 

ثم يشير في البيت الذي يليه إلى سرعة لمعان سهيل وحمرة لونه يشبهه في هذا بلمعان عين الغضبان في سرعتها وحمرتها. وقد أفصح في هذا البيت عن هذا اللون.

 

ثم يليه بيتٌ يصوره فيه قتيلاً مضرجاً بالدم من سيوف أعاديه، وقد وقفت أختاه “الشعريان” تبكيانه، وكانت العرب تقول: “الشعريان أختا سهيل. إحداهما: (الغميصاء) وهي في المجرة، لا تنظرِ إليه لأن عينها غمصت من البكاء. أي كثر القذى فيها، والأخرى “الشعرى العبور” قد عبرتْ إليه نهرَ المجرة، فهي تنظر إليه، وفي عينيها عبرةٌ.

 

ونذكر هنا أن قوله: “سيوف الأعادي” لم يرد حشواً في هذا البيت، وإنما ورد لبيانٍ تاريخي بعيدٍ لم يغب عن ذهن الشاعر في هذا التأمل. ذلك أن سهيلاً – وهو من الكواكب اليمانية- يثيره في تفرّده عن باقي الكواكب الشامية واعتزاله إياها حقد هذا الكوكب عليه، فجعلها أعداءً له، ترميه بسهامها فتصرعه، ومعروفٌ، أن بين القبائل المضرية والقبائل اليمنية أحقاداً قديمةً كانت، فأضفى بهذه اللفتة التاريخية على صورته إبداعاً آخر حين جعل الحقدَ الكامنَ في نفوس القبيلتين قد تجاوزهما إلى الكواكب اليمنية والشامية.

 

ثم يشير في البيت الذي يليه إلى طول الليل، فيجعل كواكبه لطوله كأنها لا تبرح مكانها ومن هذه الكواكب نجمان خلف سهيل يقال لهما قدما سهيل، وخلفهما كواكب أخرى يقال لها الأعيان، فإن سهيلاً على الرغم من أن له قدمين، قد تقاعس عن الحركة، وعن السير.

 

ويشبه الظلام في البيتين الأخيرين –حين ظهر فيه بياض الصبح مع ما يبدو في الأفق من حمرةٍ- بالرجل الذي يخشى أن يهجره حبيبه إذا رأى الشيبَ قد دبَّ في رأسه، فيعمد إلى سترِ هذا الشيب، وتغطيته بهذه الحمرة، التي يصبُغها به.

 

ثم يجعل النسر الواقع –وهو الكوكب المنير الذي تُشَبّهه العرب بنسرٍ ضمَّ جناحيه إلى نفسه، كأنه واقع على شيء وجناحاه هما النجمان اللذان إلى جانبه- يهمّ بالطيران حين رأى عمود الصباح يشق الظلمة كأنه سيف مسلول، وهنا مقابلةٌ بين النسر الواقع وهو كوكب كما ذكرنا، وبين النسر الطائر وهو كوكب آخر.

 

هذه الصورة الرائعة التي حلّت فيها الألفاظ الراقصة والموسيقا العذبة محل الألوان والظلال، وتواكبت فيها التشبيهات البديعة مع اللفتات السريعة، ربط فيها المعري بين مكتسباته الثقافية في الأدب والعلوم، وبين الأحداث التاريخية البعيدة، والأساطير المتواترة القديمة مما وعته ذاكرة هذا الشاعر الفنان، وقد يصعب على بعض الناس أن يصدقوا أن الذي رسمها بالكلمات، وبهذه الدقة والبراعة، شاعرٌ كان يعيش في ظلمةٍ مسدلةٍ على عينيه، ولكنه عاش ببصيرة نفاذة لم يستطع العمى أن يسدل عليها ظلامه”.

 

Read Full Post »

Older Posts »